غير أن أحوال المسلمين في صقلية بدأت تتغير بعد وفاة رجار الثاني وتولى ابنه غليالم الأول في سنة 1152 ( 547 – 548 هـ ) ، فإن الولد لم يرث من ملكات أبيه إلا القليل وقد كان كسولاً عنيفاً متعالياً وبخيلاً ، كما يقول معاصروه من المؤرخين النصارى ، ولم يحسن إلى جانب ذلك اختيار نصحائه ورجال دولته ، ولهذا فقد شقي به رعاياه جميعاً مسلمين وغير مسلمين ، ثم إن الظروف كانت قد تغيرت من حوله ، فقد اشتد ساعد الإمبراطورية التيوتونية وأخذ رجالها يتأهبون لانتزاع جنوب إيطاليا من النرمان ، ومن ناحية أخرى استقام الأمر للموحدين وأقبلوا يضيضمون شتات المغرب ويستعيدون ما كان النرمان قد استولوا عليه من مواضع على الساحل الإفريقي ، ومالت طائفة من رجال الدولة من النصارى إلى الأباطرة أو الباباوات ، وطبيعي أن تميل أفئدة المسلمين إلى الموحدين أو الأيوبيين ، وهو ميل طبيعي من جماعة إسلامية غلبت على أمرها وباتت ترجو الخلاص ، وسنرى بعد قليل أن آل حمود الصقليين لم يقتصروا على مجحرد الرجاء ، بل سعوا بالفعل نحو الخلاص .
والمهم لدينا الآن أن ظنون غليالم الأول ساءت فيمن حوله من كبار رجال الدولة ، فوقعت الفتنة فيما بينهم من ناحية ، وبينهم وبينه من ناحية أخرى ، وكان لهذا أثره على آل حمود وبقية مسلمي الجزيرة . وقد بدأت الثورة عليه في أملاكه في أبوليا وقلورية وأيدها آل كومنين أباطرة الدولة البيزنطية بأسطول ، وبعد لأي ما استطاع غليالم إطفاء هذه الفتنة وعقد مع البيزنطيين في سنة 1157 ( 552 هـ ) ، قم وثب أهل صفاقس بالنرمان وتزعمهم أبو الحسن الغربياني وابنه ، وقامت الثورة كذلك في معظم جهات الشاحل الافريقي ، ولم تلبث جييوش الموحدين المظفرة أن أقبلت يقودها الخليفة عبد المؤمن بن علي ، واستردت معاقل الشاطيء الافريقي كلها حتى طرابلس .
وعلى أثر ذلك انقض نصارى بلرم على مسلميها نصارى بلرم على مسلميها على حين غفلة ، وكان المسلمون يسكنون أغنى أحياء المدينة ، وكان يسمى حي قصارة Cassara وأنزلوا بهم مذبحة دامية ، وقتلوا منهم المئات ، من بينهم الشاعر يحيى بن التيفاشي القابسي ، ويظن أن الادريسي ترك بلرم في هذه الآونة ، فقد كان يعيش منذ وفاة رجار الثاني على مقربة من القصر مشتغلاً بتأليف كتابه (( روض الأندلس ، ونزهة النفس )) ، وكان ذلك في سنة 577 ( 1161 ) ، وهذه آخر مرة نسمع فيها بذكر جغرافينا العظيم ، وذهب العماد في (( الخريدة )) إلى أن هذه المذبحة كانت سنة 550 ( 1155 – 1156 ) ، ولكن الغالب أنه خلط بينها وبين فتن أخرى مما وقع للمسلمين في صقلية في هذه الفترة العصيبة .
وقد ذكر الحسن الوازن الذي عرف باسم ليون الافريقي في رحلته أن الادريسي مات في صقلية سن ة516 هـ ، وهو وهم من الناسخ صححه دي سلين إلى 560 ( 1164 – 1165 ) ، ومن هنا نرى أن تاريخي مولد ووفاة أعظم أنجب العرب من الجغرافيين أخذهما عن مصدرين مشكوك في سلامتهما ، الأول راهب ماروني والثاني رحالة ارتد عن الإسلام .
يتبع..