بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
ابن العم الغالي و العزيز إيهاب التركي الشاذلي الإدريسي
أشكرك كثيرا على تعقيبك على الموضوع و منك نستفيد. نعم، نحن المسلمون و الحمد لله و عقيدتنا هي أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله و مصدر التشريع هو الله سبحانه وتعالى من خلال كتابه و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم، وذلك للوصول إلى مبتغى كل مسلم (السعادة و الاستقرار)، هذا لا جدال فيه.
رغم أن اختصاصي هو في الهندسة الكهروميكانكية، الا اني اعترف لك انك جعلتني ابحث و أتعمق فيما توصّل إليه أهل علم الاجتماع. و ادعوك لتصفح معي ما استنتجته.
إشكالية المفاهيم بين الحضارة و المدنية
نسمع دائما بمصطلحات عديدة ومتنوعة في شتى المجالات الحياتية المختلفة سواء كانت على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الفني أو الديني... و يزداد الجدل حدة بين الدارسين حين يتعلق الأمر بالحضارة العربية و الإسلامية ومن تلك المصطلحات مصطلح الحضارة والمدنية. وقد تناول الفلاسفة والمتكلمين والمثقفين تلك المصطلحات وأخذ كل متكلم يدلي بدلوه في تعريف تلك المصطلحات ولقد تعود أصحاب الرأي والفكر على الجمع بين مصطلحي الحضارة والمدنية، وغالبا دون تفريق بينهما في المعنى، وان كان بعضهم قد أبرز الاختلاف في مدلول كل منهما عن الأخر و في هذا الموضوع اردت أن ابين مفهوم الحضارة و المدنية و الفرق بين كل من المصطلحين، فما التطابق والاختلاف بينهما؟
الحضارة:
يعتبر مفهوم الحضارة من أكثر المفاهيم صعوبة في التحديد، وذلك بفعل التطور الدلالي الذي حظي به عبر تاريخ الحضارة نفسها، ولعل من أهم أسباب الاختلاف في تعريفها أيضًا ما يرجع إلى الخلفية الفكرية لصاحب كل تعريف، والمنظور الذي يقدم من خلاله تعريفه، وكذلك تكوينه العلمي وزاده المعرفي؛ فالمؤرخ، والأنثربولوجي، وعالم الاجتماع، واللغوي، وعالم النفس، كلٌّ يعرفها انطلاقًا من أرضيته الفلسفية ومنظوره المعرفي الذي ينظم أفكاره. و نتيجة لحيوية التنقيب والبحث في حقل الدراسات الحضارية، ظهرت تعريفات متعددة ومتنوعة لظاهرة الحضارة. كما أن هناك تعريفات ولدت ضمن إطار الوعي العقائدي الغربي وأخرى صيغت استجابة للوعي العقائدي التوحيدي.
ولذلك نحاول تناول مفهوم الحضارة من الوجهة الاصطلاحي دون التطرق إلى الوجهة اللغوية، وللتمكن من تحديده بما يجعل منه واضحًا وقابلاً للتعامل معه ضمن شبكة المفاهيم المتعلق بمنظور الدراسة الذي نحاول صياغته.
مصطلح"الحضارة" في اللغات الأوربية، واللغة الإنجليزية بخاصة، فمشتقة من اللاتينية، فلفظ "Civilization" لغويًّا يرجع إلى الجذر "civites" بمعنى مدينة، و"Civis" بمعنى ساكن المدينة، أو "civilis" بمعنى مدني أو ما يتعلق بساكن المدينة (4).كما أنها تقرن أحيانا بمصطلح "Culture" التي في معناها اللاتيني تفيد الإنماء والحرث، واستمر مفهومها في حراثة الأرض وتنميتها، إلى نهاية القرن الثامن عشر، حيث كما يذكر معجم أكسفورد أنها اكتسبت معنى يشير إلى المكاسب العقلية والأدبية والذوقية، وتقابل في العربية مصطلح ثقافة.
فالمصطلح نفسه لم يأخذ معناه المعروف لدينا اليوم عن الحضارة في اللغات الأوربية، إلا مع القرن الثامن عشر، باعتبار ما اقترن به من مصطلحات دلالية أخرى، وأقرب المعاني اللغوية المستعملة اليوم أن الحضارة: "مرحلة متقدمة من النمو الفكري والثقافي والمادي في المجتمع الإنساني"، أو هي: "مرحلة متقدمة من التقدم الاجتماعي الإنساني، أو هي ثقافة وطريقة حياة شعب أو أمة أو فترة من مراحل التطور في مجتمع منظم".
فمصطلح الحضارة في اللاتينية واللغات الأوربية أيضا يتضمن معنى المدينة، والاستقرار، والتنظيم الذي تقتضيه حياة المدينة، وكأن هناك تشابهًا في المعنيين اللغويين في كل من العربية واللاتينية، باعتبار أن الإنسان اجتماعي بطبعه حسب التعبير الخلدوني، أي أن النـزوع إلى التجمع والتنظيم والانتظام فطرة إنسانية تحكم السلوك الإنساني في إطاره الجماعي، وأن التحضر مطلب إنساني متصل بالسعي الإنساني في مختلف العصور.
أما من الناحية الاصطلاحية؛ فإن للحضارة تعاريف مختلفة - كما سبقت الإشارة- فان ابن خلدون نظر الى تطور المجتمع البشري من خلال مروره في اربع حالات تتدرج من البساطة الى التعقيد وهي حالة البداوة وحالة الملك وحالة الحضارة وحالة التمدن.فمفهوم الحضارة اذن عند ابن خلدون هو ذلك النمط من الحياة المناقض للبداوة والمتصف بالاستقرار في الحضر اي المدن، والقرى وما نشا من زراعة للارض وانتظام في الادارة والصناعات والعلوم ومكاسب العيش ومن وسائل الرفاه الاخرى.
عند ابن خلدون الحضارة هي سر الله في وجود العمران والعلم، وإذا فقدت شروطها فإنها تنتقل إلى مكان آخر تتوفر فيه شروطها الموضوعية، ولعل تعبير ابن خلدون عن الحضارة بالسر، نستشف منه معنى القانون الذي يتحكم في انتقالها.
وإذا انتقلنا إلى العالم الغربي نجد "ديورانت" يعرفها بأنها: "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإن الحضارة تتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق".
ويعرفها تايلور بأنها: "درجة من التقدم الثقافي، تكون فيها الفنون والعلوم والحياة السياسية في درجة متقدمة".
والملاحظ على تعريف كل من ديورنت وتايلور أن الأول ينظر إلى الحضارة من جهتين؛ أنها نظام اجتماعي يقدم للإنسان القدرة على تحقيق إنجازات ثقافية، ومن جهة أخرى أنها مرحلة من مراحل التقدم البشري تكون فيها الحياة الإنسانية تتجه نحو التنظيم لما تتوفر لها مجموعة من العناصر، أما الثاني فإنه يعرف الحضارة على اعتبار أنها درجة من التقدم الثقافي لها نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو في تعريفه هذا يتجه إلى تعريف الحضارة بالنظر إلى غايتها التي تحققها في المجتمع.
كما يعرفها مالك بن نبي، وذلك من عدة جوانب؛ فهو تارة يعرفها من الجانب البنيوي (مركّزًا على بنية الحضارة وعناصر تركيبها)، وتارة من الجانب الوظيفي (مركزا على وظيفة الحضارة) باعتبارها تؤدي دورًا في المجتمع، وتارة يعرفها من جانب غايتها من حيث إنها غاية الحركة الاجتماعية في التاريخ. وبعبارة أخرى فهو يعطي التعريف التحليلي للحضارة الذي يبيّن كيفية تركيب الحضارة في عناصرها الأولية، ويعطي تعريفًا للحضارة من خلال دورها (وظيفتها) في التاريخ، كما يحدد حقيقتها الرسالية.
أما التعريف التحليلي؛ فإننا نجده يعرف الحضارة من الوجهة التحليلية (تحليل بنيتها) بالمعادلة الرياضية التالية: الحضارة= إنسان+تراب+وقت.
وفي ذلك يقول ابن نبي: "حضارة = إنسان+تراب+وقت، وتحت هذا الشكل تشير الصيغة إلى أن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت. فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات وإنما بأن نحل المشكلات الثلاثة من أساسها".
فابن نبي يجمل أي جهد أو منتج حضاري، في صورة هذا التفاعل الأولي بين عنصر الإنسان صاحب الجهد المنجز، وعنصر التراب بصنوفه التي هي مصدر الإنجاز المادي، وعنصر الزمن الذي هو شرط أساسي لأي عملية إنجازية يقوم بها الإنسان.
وباعتبار أن الحضارة إنجاز موجه في التاريخ؛ فإنه لا شك إنتاج لفكرة تطبع صبغتها على جهد الإنسان فتميزها في التاريخ، ولهذا فابن نبي لا يكتفي بهذه العناصر التركيبية الأولية للحضارة فقط، بل يضيف إليها الفكرة المركِّبَة؛ التي هي الفكرة الدينية (الدين)، مركِّب القيم الاجتماعية، و يقوم الدين بهذا الدور في حالته الناشئة، حالة انتشاره وحركته، عندما يعبر عن فكرة جماعية، أي لا يكون فكرة مجردة بعيدة عن صياغة همٍّ جماعي وأداءٍ اجتماعي مشتركٍ.
فالحضارة من هذه الوجهة التحليلية تقوم على عناصر الإنسان والتراب والزمن، في وجود شبكة من العلاقة الاجتماعية التي تشكل الميلاد الحقيقي للمجتمع في التاريخ وبداية إنجازه التاريخي على ضوء الفكرة الدينية.
أما التعريف الوظيفي فإن ابن نبي يقول بشأنه: "إن الحضارة يجب أن تحدد من وجهة نظر وظيفية، فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين، أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور، أو ذاك من أطوار نموه". فهي ذلك العمل الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع في سبيل توفير الضمانات التي تؤهل الفرد لممارسة دوره في التاريخ.
فمن وجهة الوظيفة التي تؤديها الحضارة فإن ابن نبي ينظر إلى الحضارة بمقدار ما تقدمه من الضمانات للفرد، تلك الضمانات التي يقدمها المجتمع لأي فرد من أفراده في مرحلة تاريخية معينة من مولده إلى مماته. أي إلى أن ينقضي وجوده الاجتماعي. هذه الضمانات هي بمثابة شروط ذات وجهتين مادية ومعنوية. وبعبارة أخرى: إنها في الواقع جملة العوامل المعنويّة والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره. فالفرد يحقق ذاته بفضل قدرة وإرادة تنبعان من المجتمع الذي هو جزء فيه، فالحضارة أداء اجتماعي لمجتمع ما في التاريخ.
فإذا كان مجتمع معين يستطيع في مرحلة تاريخية معينة تقديم وتوفير مثل هذه الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح للفرد أن يمارس دوره الطبيعي في المجتمع؛ فإن المجتمع يعيش حالة حضارة. وكأن ابن نبي من هذه الزاوية يركز على الحقيقة الموضوعية التي تلتمس الحضارة في أثرها في الواقع، وتهتم بالمنظور الاجتماعي (السوسيولوجي) للظاهرة الحضارية.
ومن هذه الجهة (الوظيفية)؛ فإن الحضارة هي:
أولاً: شروط أخلاقية ومادية وهذا يجعل الحضارة خاضعة للتوازن الذي يحفظها من الانحراف، فإذا اختل جانب انحرفت الحضارة من هذا الجانب المختل.
ثانياً: عمل اجتماعي، وهذا يشير إلى أهمية المجتمع وأسبقيته في عملية الإنجاز الحضاري، وذلك من خلال تركيز ابن نبي على أهمية وجود عالم شبكة العلاقات الاجتماعية باعتبار أن الحضارة إنجاز يقوم به المجتمع بمجموع أفراده، ويتم في إطاره وبإرادته وإمكانه، حتى إنه يمكن القول: إن الحضارة هي عمل شبكة العلاقات الاجتماعية ذاتها.
وثالثاً: أن الإنسان (الفرد) يأخذ أهمية خاصة من خلال اعتبار الحضارة من الوجهة الوظيفية عملية تقديم للضمانات لهذا الفرد حتى يتمكن من ممارسة دوره المنوط به اجتماعيًّا.
ورابعاً: أن الحضارة عبارة عن ضمانات إذا نظرنا إليها من هذه الوجهة، وهي ضمانات تتيح للطاقات الفردية والاجتماعية أن تنطلق وتمكن الفرد من التطور ماديًّا ومعنويًّا.
كما أن الحضارة خامساً: عبارة عن أطوار اجتماعية يمر بها المجتمع، وفي هذا إشارة إلى الظاهرة الدورية التي تمر بها الحضارة.
يتبع