بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السيد الشيخ العلامة محمد الفاتح الكتاني الادريسي الحسني
بقلم : الأستاذ عبد الله عبد المؤمن
عن موقع رسالتي
طبيعة الشام جذّابة ومنظرها فيه خِلابة، امتزج جمالها بجمال أهلها، فما إن تدرك حلاوة الطبع وسخاء النفس ورقّة المعاملة عند أحدهم إلا وتجد الآخر أبلغ وأجزل. وهذا، ما جعلنا لا نفارق مقام أهلها لما افتتحنا بالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، واستأنسنا بالحديث عن تلكم الديار، كما قيل:
أمـر على الديار ديار ليلـى أقبل ذا الجدار وذا الجـدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكـن حبّ من سكن الديارا
ودائماً في حدود دمشق إبّان زيارتي السياحية والعلمية لهذه البقاع، أكرمنا الله عز وجل كذلك بمعرفة عَلم شامخ وإمام عارف بالله متستّر، يخشى الظهور. من بيت مغربي عريق في العلم والشرف، ثالث أسرة اشتغلت بالحديث النبوي الشريف بعد الأسرة الصديقية والعراقية في المملكة المغربية الشريفة.
أتى أمّه المخاض في بلد المشرق فاشتدّ عليها الأمر وضاق بها الحال إلى أن قالت: يا ليتني مِتّ قبل هذا وكنت نسيا منسيا، فاجتمعت الأسرة ومعهم كبيرهم جدّ الكتانيين سيدي محمد بن جعفر الكتاني صاحب: " الرسالة المستطرفة" و " سلوة الأنفاس" وغيرها من الكتب، وشرعوا في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيغة: " اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أُغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حقّ قدره ومقداره العظيم"، وبلغ العدد ألف صلاة فجاء الفرج وارتفع الحرج وولدت ابنها العلامة المحدّث وسمّته: محمدا الفاتح. وكان ذلك بدمشق الشام سنة 1339هـ الموافق ل 1920م.
هكذا أخبرني مُشافهة حفظه الله ، وقد توسّمت فيه الفضل قبل لقائه، وكنت أودّ تلمّس بقية أثر نضارة الحديث في صفوف المتأخرين، ولما أكرمني الله بمجالسته صيف 2003م أدركت سرّ تقديم أهل هذا الشأن وتفضيلهم بل وصلاح حالهم، لِما تلمّست فيه من الورع والصدق والمحبّة، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه:
" إن لم يكن الأبدال هم أهل الحديث، فمن هم إذن؟"
إن الجلوس إلى مثل هؤلاء الأعلام يستبطن معان ودلالات لا يستنبطها إلا طالب العلم الذي يجثو على ركبتيه بين أيديهم مُطرقا رأسه مُستفهما وقت الحاجة مُبديا الأدب وحسن الإصغاء، ليدرك إضافة إلى التكوين العلمي الرصين ربّانية في السلوك يفتح الله بها عليهم بسعة المعرفة وصدق الحدس ونفاذ البصيرة وحدق الفراسة. وهذا قلّ ما يجتمع لكثير من أهل العلم خصوصا من يستبدل التزكية السلوكية بالمادية والدنيوية، فلا تجتني في مجلسه معرفة ولا تصفية ولن تجد بعد الفقه والفتوى أمرا من هذا القبيل.
يمكن عدّ هذا الإمام معتزلا العالم الخارجي مرابطا في بيته إذ تفد عليه وفود الطلبة من كل حدب وصوب، وهذا ما دفعنا إلى زيارته بحي الثريا بالميدان في دمشق، فوجدناه مغربيا أصيلا يحنّ إلى بلاد أجداده، ويؤثر لباس الجلباب المغربي ويتمسك بأصالته في الزي وبنبرة الكلام المغربي الصرف، وهذا ما يدفعه بين الحين والآخر إلى السؤال عن أهل البلد راجيا قرب أجل زيارتهم.
ما نحن في غنى عنه هو الحديث عن مسار الرجل العلمي ما دام الجد والأب والعم والأخ من علماء الحديث. فالدّرّ من معدنه كما يقال، وهذا ما منحه شرفا في تحصيله وأحقّية في اكتسابه لعلم الحديث والدراية فيه.
أدرك جدّه الإمام محمد بن جعفر الكتاني وهو ابن خمس سنين ونصف تقريباً، وزار المغرب وقتئذ مع والده وجدّه طفلاً، فنهل من بحر معارفهم ونشأ برعاية والده العلامة السيد محمد المكي رحمه الله، فحباه بالعناية والرعاية والعلم، حيث أخذ منه الشيء الكثير، كما درس بالمدرسة التجارية، فقرأ فيها على المربي العلامة، الفقيه الأصولي الحجة: الشيخ محمود بن رشيد العطار المتوفى سنة 1362 ﻫ متن القدوري في الفقه الحنفي، وقرأ على المربي الفقيه المقرئ العلامة الشيخ كامل سمسمية القرآن والفقه واللغة العربية، وقرأ على المربي الصوفي الأستاذ الشيخ مراد سوار (الحِكَم) لابن عطاء الله بشرح ابن عباد، وقرأ على الشيخ عبد القادر سوار أيضاً، وعلى الشيخ أحمد بن محمود العطار، والأستاذ واصف الخطيب الرياضيات، ثمّ انتقل إلى المدرسة الكاملية الشرعية في حيّ البزورية بدمشق، فقرأ على الأستاذ الفقيه الجامع للمذهبين-الشافعي والحنفي- العلامة الحجة الشيخ محمود العطار كتاب ( الهداية ) للمرغيناني في الفقه الحنفي أيضاً ، وعلى المربي العلامة الشيخ محمد كامل بن أحمد القصاب المتوفى سنة 1373 ﻫ القرآن الكريم وتجويده، وقرأ على العلامة الفقيه الأصولي الثقة الشيخ محمد لطفي بن محمد بن عبد الله بن عبد القادر الفيومي المتوفى سنة 1411ﻫ (قطر الندى) في النحو مرتين، وأخذ التاريخ عن الأستاذ المربي الشيخ محمد فرفور المتوفى سنة 1407 ﻫ وعن الأستاذ محمد أحمد دهمان، وقرأ على العلامة المربي الشيخ محمود بن قاسم الرنكوسي المتوفى سنة 1405 ﻫ قسماً من (قطر الندى) في النحو. هذا وقد قرأ علم التجويد بالتطبيق العملي على الشيخ العلامة المقرئ المجوّد المُتقن الشيخ محمد سليم بن أحمد اللبني المتوفى سنة 1400 ﻫ، كما قرأ على الشيخ العلامة المربي المشارك المتفنن الدّاعية المرحوم الشيخ محمد حسن بن مرزوق حبنكة الميداني المتوفى سنة 1398 ﻫ التوحيد والبلاغة والمنطق وغير ذلك.
ثم انتقل إلى المدرسة الثانوية الشرعية ببيروت، والتي تعتبر فرعا للأزهر، فقرأ على العلامة الشيخ حسن دمشقية القرآن الكريم تطبيقاً وحفظاً، وقرأ الحديث الشريف على العلامة المحدث الفقيه الأديب الشيخ محمد العربي بن محمد المهدي العزوزي الإدريسي الحسني المتوفى سنة 1382 ﻫ، كما وتعلم الخط على قواعده على الأستاذ كامل البابا، وأخذ اللغة العربية والفلسفة على العلامة الأديب الشاعر الشيخ الأستاذ عبد الله العلايلي، وأخذ على أخيه الأستاذ مختار العلايلي. كما أخذ علم العروض على الشيخ أحمد العجوز، و أخذ علم الفرائض على مفتي لبنان العلامة الشيخ محمد خالد.
ثم انتقل لإكمال دراسته الجامعية في الأزهر الشريف بمصر، فدخله سنة 1365هـ ببعثة من وزارة المعارف السورية وبترحيب شيخ الأزهر المرحوم الشيخ محمد الخضر بن الحسين التونسي المتوفى سنة 1377هـ وظل فيه مدة أربع سنوات حيث تخرج منه سنة 1369هـ. وقرأ فيه على العلامة الأستاذ الشيخ عبد الحليم قادوم الأزهري: التصوف، وعلى العلامة الفقيه الأصولي الأستاذ الشيخ حسن فرغلي كتاب ( التلويح بشرح التوضيح لمتن التنقيح ) في أصول الفقه الحنفي، كما وقرأ على العلامة العمدة الشيخ سليمان عبد الفتاح (الهداية) في الفقه الحنفي، وقرأ على العلامة الأستاذ الشيخ حسين عبد الغفار الحائز على الشهادة العالمية مادة الأصول والفقه وغير ذلك.