بحر علم الله لا ينفد ، و لا يستطاع بالرياضة و المجاهدة وحدها ، و لبد لنيله أن يطلبه العبد من حيث أمره الله تعالى ، و كما يريد جل و علا ، لا من حيث تطلبه أنت و كما تريد أنت ، بل تعوذ بالله منك ، قال أبو عبيدة في قوله تعالى : ( وَ أْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا ) : اطلبوا الخير من بابه و من أهله و لا تطلبوه من الجهال المشركين . [الهداية الى بلوغ النهاية 1/633]
قال الرازي : جعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، و إتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم ، و هذا طريق مشهور في الكناية ، فإن من أرشد غيره إلى الوجه الصواب يقول له : ينبغي أن تأتي الأمر من بابه و في ضده يقال : إنه ذهب إلى الشيء من غير بابه ، قال تعالى : ( فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ ) (آل عمران : 187) و قال : ( وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ) (هود : 92) فلما كان هذا طريقاً مشهوراً معتاداً في الكنايات ، ذكره الله تعالى ههنا . [مفاتيح الغيب 1/796]
قال النسفي : و باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها و لا تعكسوا . [مدارك التنزيل وحقائق التأويل 1/108]
قال إسماعيل حقي : في الآية إشارة إلى أن لكل شيء سبباً و مدخلاً لا يمكن الوصول إليه و لا الدخول ، إلا باتباع ذلك السبب و المدخل كقوله تعالى : ( وَ ءَاتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) (الكهف : 84 ـ 85) فسبب الوصول إلى حضرة الربوبية و المدخل فيها هو التقوى و هي اسم جامع لكل بر من أعمال الظاهر و أحوال الباطن و القيام باتباع الموافقات و اجتناب المخالفات و تصفية الضمائر و مراقبة السرائر فبقدر السلوك في مراتب التقوى يكون الوصول إلى حضرة المولى . [روح البيان في تفسير القرآن 1/249]
بعض الناس يريد أن يتجشم القفز ، و كما قال تعالى : ( وَ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [النحل : 33] بل لقد زعموا أن القفز هو البر و أن المشي إلى الأبواب ضعف و نقصان ، فهم يبحثون عن شيء ليس كالمعتاد .
و ما أقرب هذا المعنى إلى قوله صلى الله عليه و آله و سلم : ( مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَ الْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَ لَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَ مَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَ إِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَ نَجَوْا جَمِيعًا ) [صحيح البخاري 6/322 برقم 2493]
لقد قرر في يوم من الأيام بعض بني الإنسان أن يسلكوا سبيلا في هذه الحياة غير السبيل التي أرادها الله تعالى شرعا ، بل أبوا إلا أن يسكلوا سبيلهم الخاص كما يريدون ، أرادوا الحياة الروحية أو الجسدية و هو المراد بالماء لأنه مصدر الحياة ، على مقياسهم الخاص ، و لكن لو أنهم رجعوا إلى المنابع الصافية ، و هي رسل الله تعالى و خلفاؤهم لنجوا ، و لفهموا الأمور على حقائقها .
عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه و سلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه النبي صلى الله عليه و سلم , فغضب , فقال : أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب , و الذي نفسي بيده لقد جئتكم بها نقية , لا تسألوهم عن شىء فيخبروكم بحق فتكذبوا به , أو بباطل فتصدقوا به , و الذي نفسي بيده , لو أن موسى صلى الله عليه و سلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني .
و في رواية عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كان فيكم موسى و اتبعتموه و عصيتموني لدخلتم النار .
و في رواية عن خالد بن عرفطة عن عمر بن الخطاب : يا أيها الناس إني أوتيت جوامع الكلم و خواتيمه , و اختصر لي اختصارا , و لقد أتيتكم بها بيضاء نقية , و لا تتهوكوا , و لا يغرنكم المتهوكون .
و في رواية عن أبي الدرداء عن عمر بن الخطاب : و الذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه و تركتموني لضللتم ضلالا بعيدا , أنتم حظي من الأمم , و أنا حظكم من النبيين .
و الحديث حسنه الألباني بمجموع طرقه . [إرواء الغليل 6/34]
و في الحديث إشارة إلى وجوب اتباعه و اتباع شريعته ، و ترك اتباع من يدعي الإلهام من أهل الولاية ، لأن سيدنا موسى عليه الصلاة و السلام في أرقى مقامات الولاية .
قال سبحانه و تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) [التوبة : 31]
عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسولَ الله صلى الله عليه و سلم و في عُنُقي صليبٌ من ذهب ، فقال : يا عديّ ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك . قال : فطرحته ، و انتهيت إليه و هو يقرأ في سورة براءة ، فقرأ هذه الآية : ( اتخذوا أحبارهم و رُهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قال : قلت : يا رسول الله ، إنا لسنا نعبدُهم . فقال : أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه ، و يحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه ؟ قال : قلت : بلى . قال : فتلك عبادتهم . [جامع البيان في تأويل القرآن 14/210]
و في رواية عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ سورة براءة ، فلما قرأ : ( اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قلت : يا رسول الله ، أما إنهم لم يكونوا يصلون لهم . قال : صدقت ، و لكن كانوا يُحلُّون لهم ما حرَّم الله فيستحلُّونه ، و يحرّمون ما أحلّ الله لهم فيحرِّمونه . [جامع البيان في تأويل القرآن 14/211]
قال في مراقي السعود :
و ينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء
و قد رآه بعض من تصوفا و عِصمة النبي توجب اْقتِفا
لا يحكم الولي بلا دليل من النصوص أو من التأويل
أخرج تاج الدين السبكي عن أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني قال سمعت أبا الحسن علي بن هارون بن محمد و أبا بكر محمد بن أحمد المفيد يقولان سمعنا أبا القاسم الجنيد ابن محمد غير مرة يقول : طريقنا مضبوط بالكتاب و السنة من لم يحفظ القرآن و لم يكتب الحديث و لم يتفقه لا يقتدى به . [طبقات الشافعية الكبرى 2/273]
مركز رفع الملفات
احذروا سياسة القفز من فوق الجدران و النوافذ
العرض العادي
