بسم الله والصلاه علترجمة العلاّمة الشّيخ محمّد الطّاهر شوشان بن عمارة:
وإذا فهو العلامة الشيخ الشّريف محمد الطاهر شوشان بن عمارة الجريدي كان قد ولد بتوزر في الجنوب التونسي سنة 1865م،وتعلّم أول الأمر في زوايا الأشراف بموطنه الأصلي فأخذ معارفه الأولية ، من حفظ للقرآن الكريم ، ومبادئ الشريعة الإسلامية ، ودروس العربية في مسقط رأسه ، ثم تعرّف على خيرة علماء عصره بتونس فدرس عليهم وأحكم كثيرا من الفنون كالأصول و المنطق والجدل ،والفقه المالكي ،والفرائض و الحساب والتاريخ ،والنحو على طريقة البصريين المشتهرة بالمغرب العربي ثم شدّ الرحال بعد ذلك إلى الجزائر قاصدا الجنوب الشرقي أين استقر به المقام في المحروسة العالية وكانت يومها حاضرة عامرة بالأعيان من الأشراف والعلماء العاملين ،وذوي الجاه ، والنفوذ فلقي ما لقي من الحفاوة و الإجلال مما يليق بمقام أمثاله من المثقفين .
وسرعان ما توطدت علاقته بأهل المنطقة وأعيانها حين تزوج فيهم ، وزوّج بعد ذلك كريماته (بناته) لخيرة أبنائهم ، مثل ،الشّيخ الفاضل الجليل الصّغير بن محاد الأخضر قادري ،والذي عرف بملازمته للشّيخ العلاّمة،و الأخذ عنه، وربّما كان من أكثر المنتفعين بعلومه ومعارفه. وكذلك من أصهار العلاّمة، الشّيخ حمزة بلعلمي؛ و الشّيخ محمد العيد حمزي ؛وكذا الشيخ الحاج المازوزي حمّاني ؛والشيخ بلقاسم موهوبي. وللشّيخ العلاّمة أحفاد كثيرون منهم العالم ومنهم السّياسي وفيهم الضّابط وما دون ذلك؛وهم بغير مكان من أرض الله الواسعة .كما أنّ للشّيخ العلاّمة خمسة أبناء هم : عمارة ،وعبد الرّحمان ،والعربي،وإبراهيم،ومحمد الأخضر،وكلّهم كانوا رجالا،ربّوا على الفضيلة وحبّ الوطن؛ فكان جميعهم من خيرة مجاهدي هذه البلاد. وهكذا قضى العلاّمة بقية عمره بين ظهراني أهل العالية، إلا قليلا، حين سافر إلى بلدة القرارة و التي كانت وفاته بها في حدود 1946 م .ولقد كانت حياة هذا الشّيخ الإمام المصلح مفعمة بالنّشاط الدّؤوب،ما بين نشر للعلم والفضائل،وبثّ للوعي القومي التّحرّري،إلى أن اختاره الله إلى جواره الكريم؛تغمّده الله برحماته الواسعة،وأسكنه فسيح جنانه ؛وجازاه عن أبناء بلاده أفضل الجزاء. وقد ترجم له ،مؤرّخ الجزائر و وادي ميزاب العلاّمة الشهيرعلي دبّوز،في التّاريخ الكبير؛وقد أثنى عليه كثيرا.
مكانته العلميّة،ومقامه المعرفي :
هذا الإمام القطب - فضلا عن تضلّعه في الأصول و الفروع – كان جامعا لتاريخ العرب و المسلمين ، عليما بأيامهم ومآثرهم ، فهو مؤّرخ متبحر في أبواب التاريخ ، خبير بفرق الإسلام و المسلمين ،نسّابة عليم بالقبائل العربية وغير العربية ، وبخاصة ممن استقر بالمغرب العربي أدناه وأوسطه و أقصاه عبر عصور التاريخ الإسلامي . وقد ألّف_كما أشيع_ مجموع رسائل في ذلك على أنّنا لم نتحقق من ذلك بعد؛ إلا أنّ أشهر أعماله التاريخية مشجّرته لأنساب الأشراف بالمغرب العربي ،و هي مخطوطة في جلد طوله 6أمتار ،وعرضه60 سم ،ولقد عاينّا نسخة المخطوط لدى حفيده محمد بن الصغير قادري ببلدية العالية ،وهذا الأخير هو حفيده من ابنته الموصوفة بالكمال مريم شوشان . وأمّا المخطوط الأصلي لهذه المشجّرة فهي ضمن مكتبته الكبرى ،أي مكتبة الشّيخ رحمه الله لدى حفيده الثاني الحاج محمد حمّاني المازوزي بالقرارة .
وللأمانة العلمية فانّ حفيد الشيخ ، الحاج محمد حمّاني هذا، كان أبدى – حين التقائنا به على هامش الملتقى الدّولي الثاني لشاعر الجزائرالكبير محمّد الأخضر السّائحي،وحديثنا بخصوص أعمال جّده العلمية – كثيرا من الأريحية ،و التعاون ،وقد وعدنا بتسهيل كل ما نحتاج إليه في هذا الشأن .وقال بأنّه في الخدمة ،وأنّ المكتبة العامرة هي تحت تصرفنا متى أردنا ذلك ؛ فجزاه اللّه كلّ خير ،ولا عجب فهذا الشبل من ذاك الأسد .
الجهود العلميّة للعلاّمة :
هذا المخطوط النفيس كان قد اجتلبه الشريف الشيخ الفاضل العلامة محمد الطاهر شوشان بعد نقله بيده من مشجّرة الأنساب الكبرى الكائنة بزاوية الشيخ سيدي إبراهيم بن أحمد الشريف الأدريسي في بلاد نفطة بتونس ،وكاتبها هو الشيخ محمد بن على التليلي ، الشريف النفطي سنة 1308هجرة عن النسخة الأصلية القديمة ،والتي تعود إلى عهد الحفصيين،و تحديدا مستهل القرن التاسع الهجري سنة 802 للهجرة ؛ وعلى هذا المخطوط أختام ملوك بني حفص ، وأختام قضاتهم ال22.
غير ان قيمة هذا المخطوط انما هي في كونه إرثا علميا، وهو بعلم التاريخ والأنساب الصق منه بأي فنّ آخر،ويرتبط بالتاريخ لبعض القبائل العربية، والتركيز فيها على ذات الصّلة بالنّسب المحمذي الشّريف من طريق الادارسة.
وواضح من المخطوط الأصلي،واقصد هنا المخطوط الحفصي لهذا المشجرّ انه غير ذي صلة بما نحن فيه الآن؛غير أن مخطوط المشجّر لصاحبها الشريف العلاّمة القطب الشيخ محمّد الطاهر شوشان يضّم في آخره ارجوزة على درجة عالية من الفنية؛مصوغة بعبارة سهلة ومتماسكة وهي لذلك؛تستحقّ العناية بها وتمكين العالم منها بتحقيقها ونشرها.
وإما موضوع الأرجوزة فهو مدح آل البيت ،وبقيّتهم الصالحة في هذه الربوع من أرض الوطن والمقصود هو الوليّ الصالح العامل العابد سيدي محمّد السايح دفين بلدة عمر وكذا مدح الأقطاب العارفين من نسله الشريف.
وربّما لأنّ هذه الأرجوزة تمحورت حول التأريخ لأشراف هذه المنطقة؛وخصّت بالمدح هؤلاء المعروفين في الجهة الشّرقية بأولاد سيدي محمد السّايح،الشّريف الإدريسي المعروف ؛فلقد غطّت شهرتها على بقيّة أعمال الشيخ الأخرى ذات الأهمية الأكبر.وهذا مفهوم؛إذ أن النّاس يميلون فطرة إلى أن يمدحوا؛ولعون بمن يخلّد ذكرهم ،ومآثرهم ؛وقدما قال المتنبّي :
( يهوى الثّناء مبرّز ومقصّر *** حبّ الثّناء طبيعة الإنسان )
والواقع أنّ عملية إخراج التراث الفكري و العلمي لهذا العالم الجليل يحتاج إلى غير قليل من الجهد ؛ على أننا سنجتهد في إماطة اللثام عن هذه الكنوز ما وجدنا إلى ذلك سبيلا .
من الجهود العمليّة الخالدة للشّيخ العلاّمة :
وأمّا عن الجانب العملي لهذا العالم العامل المجتهد فسنكتفي في هذه الورقة المستعجلة بالإشارة إلى أهمّ منجزاته وأفضاله على المنطقة وأهلها ، وما أجلّها ، ويمكن أن نسجل :
أنه فضلا عن الدروس الدينية اليومية والتي كانت لعموم الناس ،وفضلا عن الاجتماعات الدورية مع أعيان حاضرة العالية والتي كانت تعقد لمدارسة الشأن العام كان العلامة الموسوعي، والمصلح الفذّ الشريف محمد الطاهر بن عمارة بعيد الهمة ،نبيل المهمة حين استهدف الوقوف في وجه المستعمر ، ومخطّطاته الجهنمية الرامية إلى عزل الجزائريين عن محيطهم الخارجي ، حتى لا يتأثّروا بالحركات المقاومة في الوطن العربي ، إلا أن الشيخ رحمه اللّه ،استطاع و بفضل جهوده التنويرية التوعوية ، ومن خلال نشره للوعي القومي بين أبناء حاضرة العالية،وبثّ روح الوطنية فيهم؛ وكذا من خلال تسهيلاته لأبناء المنطقة عمليات الاتصال بتونس الشقيقة من أجل التحصيل العلمي والتكوين القومي ، قلت استطاع الشيخ أن يكون وراء تخريج جيل كامل صالح من المثقّفين النهضويين ، أو( المثقّفيين العضويين) بتعبير أنطونيو غرامشي ،والذين كان لهم ،هم بدورهم فيما بعد ،أبعد الأثر في تكوين شباب وطنيّ مثقّف عالم توّاق إلى الحرية ، مجاهد في سبيل الوطن ،نيّف عدد الشّهداء منهم عن الأربعين في بدايات الثورة التحريرية المجيدة وحدها، حتى لقد انزعجت القوات الفرنسية من هذه الجهة ، وحتى أفتكت العالية المباركة من الحاكم الفرنسي للمنطقة ، وبجدارة لقب : (( مشتلة الفلاقة )) ....
وان ينس التّاريخ ،فانّه لا ينسى أبدا جهود هذا الشّيخ الجليل في الوقوف بكل شجاعة في وجه المخطّطات الأستدمارية الرّامية إلى تفريق الجزائريين. وذلك من خلال العمل على التّقريب بين أتباع المذهبين المالكي والاْباضي؛مراعاة للوحدة الوطنية الملحّة؛ومراعاة كذلك للمصالح المشتركة لأبناء الجهة الواحدة.وذلك من خلال التنصيص ،والتذكير في كلّ فرصة بأنّ المذهبين غير متباعدين في الرّؤية،و أن ما يجمع أبناء الأمة الواحدة أكثر مما يفرقهم؛ والحث على وجوب التفطن باستمرار لمكائد المستدمر .
لقد استمرّت جهود الشيخ في هذا الاتّجاه،خاصّة بعد أن استقرّ به المقام في القرارة،فكان يعمل بكلّ ما في وسعه لقطع الطّريق على المستدمر الفرنسي الهادف الى تسميم العلاقات بين إتباع المذهبين في كلّ مرّة.
ومازال أبناء منطقة العالية يتداولون أحاديث تتعلّق بالمناظرة الشّهيرة التي جمعت القطبين:محمّد الطّاهر بن عمارة شوشان مناظرا باسم السّادة المالكية؛ويوسف بن طفيش مناظرا باسم السّادة الاباضية؛إلا أنّنا لا نملك الآن بحوزتنا وثائق تؤكّد حصول هذه المناظرة أو التّاريخ الذي تمّت فيه ؛أو تفاصيلها إن هي حصلت حقّا.
فإذا نحن افترضنا وقوع هذه المناظرة،فالاحتمال قائم حينئذ في أنّها كانت في أيام شباب الشّيخ،أي في أواخر القرن التاسع عشر؛ وحتّى على أبعد تقدير، لا يمكن أن تتجاوز بدايات القرن العشرين؛لانّ القطب يوسف بن طفيش كان قد توفي في حدود 1914وفي سنّ جدّ متقدّمة.
رحم اللّه قطب الإصلاح، وحجّة المالكية ،العالم العامل العلاّمة الشّيخ محمّد الطّاهر بن عمارة شوشان، وجازاه عن أمّته خير الجزاء.
الهوامش :
(1): محمد عابد الجابري, نحن و التراث (قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي), الطليعة,ط1, 1980, مركز دراسات الوحدة العربية.
- المسألة الثقافية في الوطن العربي, مركز دراسات الوحدة العربية,ط1, 1994, بيروت.