الجزء الأول من (( تنبيه الأنام لكذب وبطلان كثيرٍ من ما أشتهر على ألسنة العوام ))
الْحَمْدُ للهِ الْهَادِى مَنْ اِسْتَهْدَاهُ . الْوَاقِى مَنْ اِتَّقَاهُ . وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ الأَوْفَيَانِ عَلَى أَكْمَلِ خَلْقِ اللهِ .
اشتهَر فى هذه الأيام الكثيرُ من الخطباء والوعاظ ، واشتهَر بالتالى كثيٌر مما يقولونه على المنابر من الأحاديث الباطلة والمنكرة والموضوعة ، وأخذَ العوامُ يردودنَ هذه الأحاديث ، غيرَ مكترثينَ لدرجتها من الصحَّة أو الضعف .
كَذِبٌ يُقَالُ عَلَى الْمَنَابِرِ دائِماً أَفَلا يَمِيدُ لِمَا يُقَالُ الْمِنْبَرُ
والطَّامَّةُ الكبرى أن الكثير من هذه الأحاديث مكذوبةٌ على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مع وضـوح الدلالة على التحذِير من الكذِب عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ففى محكم التنزيل ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
وأخرج الشيخان فى (( الصحيحين )) من حديث مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بنَ أَبِى طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( لا تَكْذِبُوا عَلَيَّ ، فَإِنَّهُ مَـنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ ) ، ومن حديث سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ) ، ومن حديث يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ) . وهو متواتر عن عدة من الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ .
ولذا فقد شرعتُ فى إعداد بحثٍ فى هذا الموضوع أسميته :
(( تنبيه الأنام لكذب وبطلان كثيرٍ من ما أشتهر على ألسنه العوام )) .
وقد أعتمدتُ فى المقام الأول على (( السلسلة الضعيفة )) للشيخ الإمام علامة الشام ومحدثى ديار الإسلام : ناصر الدين الألبانى ـ طيب الله ثراه ـ ، وذكرت فيه الأحاديث الموضوعة والباطلة والمنكرة ، ولم أذكر من الضعيف الا القليل لأنه مظنة الثبوت .
( لطيفة فى التحذير من الكَذُوبُ ) قال أبو العتاهية الشاعر :
إِيّاكَ مِنْ كَذَبِ الْكَذُوبِ وَإِفْـكِهِ فَلَرُبَّـما مَـزَجَ اليَقـينَ بِشَـكِّهِ
وَلَرُبَّما ضَـحِكَ الكَذُوبُ تَكَلُّفاً وَبَكى مِنَ الشَيءِ الَّذي لَمْ يُبْـكِهِ
وَلَرُبَّما صَـمَتَ الكَذُوبُ تَخَلُّقاً وَشَكَى مِنَ الشَيءِ الَّذي لَمْ يُشْكِهِ
وَلَرُبَّما كَـذَبَ اِمـرُؤٌ بِكَلامِِِهِ وَبِصَـمتِهِ وَبُـكائِـهِ وَبِضِحْـكِهِ
فما أروعه .. وما أبينه .. وما ألطفه تصويراً ، يفضح حقائق الكذَّابين بكلامهم ، وبكائهم ، وتشنجاتهم ، وحماساتهم ، وخطبهم الجوفاء !! .
وقبل الشروع فيما له قصدت ، لابد من مقدمةٍ فى التحذير من رواية الموضوعات والأباطيل والمناكير ، فإن ذلك من المطلوبات المهمات ، والضرورات الشرعيات .
قَالَ شَيْخُنَا أبو مُحَمَّدٍ الأَلْفِىُّ _ حفظه الله _ فى ثنايا تحقيقه للأحاديث الضعيفة والموضوعة فى الحجامة فى كتابه القيم (( طوق الحمامة فى التداوى بالحجامة )) : (( الحمد لله الذى رفع منار الحق وأوضحه ، وخفض الكذب والزُّور وفضحه ، وعصم شريعة الإسلام من التزييف والبهتان ، وجعل الذكر الحكيم مصوناً من التبديـل والتحريف والزِّيادة والنُّقصان ، بما حفظه فى أوعية العلم وصدور أهل الحفظ والإتقان ، وبما عظَّم من شأن الكذب على رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبعوث بواضحات الصِّدق والبرهان .
ومع ذا ، فكـم وضع الوضَّاعون ، والآفَّاكون ، والزنادقة ، وضعاف الحفظ ، والمغفَّلون من الزُّهاد والعبَّاد ، بقصدٍ وتعمدٍ ، أو بغفلةٍ وسوءِ حفظٍ ، كم وضعوا من أحاديث على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فى التَّرغيب والتَّرهيب ، والزُّهد والرَّقائق ، وفضائل الأقوال والأعمال ، ومناقب الصَّحابة والأخيار ، فكشف الله على أيدى الجهابذة من حفاظ الآثار ونقاد الأخبار زيغَهم ، وفضح كيدَهم ، إذ بيَّنوا أحوال رواتها ، وحللوا أسانيدها ، وميزوا صحيحها وسقيمها ، فكشفوا عوار الباطل والموضوع ، وأوضحوا علل المنكر والمصنوع . ولهذا لما سئل السيد الجليل والإمام القدوة النِّحرير عَبْدُ اللهِ بْنِ الْمَبَارَكِ : ما هذه الأحاديث الموضوعة ؟ ، أجاب قائلاً : تعيش لها الجهابذة .
ولله در الشيخ العلامة محمد على آدم الأثيوبى ، المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرَّمة ، حيث يقول فى منظومته: (( تذكرة الطَّالبين ببيان الوضع وأصناف الوضاعين )) :
لـمَّا حَمَى اللهُ الكِتَابَ الْمُنْزَلا *** عَـنْ أَنْ يُــزَادَ فِيهِ أَوْ يُبَدَّلا
أَخَـذَ أقْـوَامٌ يَزِيـدُونَ عَلَى ******أَخْبَـارِ مَنْ أَرْسَـلَهُ لِيَفْصِـلا
فَأنْـشَأَ اللهُ حُـمَاةَ الدِّيــنِ******* مُمَيـِِّزينَ الْغَثَّ مـِنْ سَمِيـنِ
قَـدْ أَيـَّدَ اللهُ بِـهِمْ أَعْصَارَا******* وَنَوَّرُوا الْبـِـلادَ وَالأَمْصَـارَا
وَحَرَسُوا الأَرْضَ كَأَمْلاكِ السَّمَا*** أَكْرِمَ بِفِرْسَانٍ يَجُـولُون الْحِمَى
وَقَـالَ سُـفْيَانُ الملائـِكَةُ******** قَدْ حَرَسَـتْ السَّمَاءَ عَنْ طَاغٍ مَرَدْ
وَحَـرَسَ الأَرْضَ رُوَاةُ الخَبَـرِ**** عَنْ كُلِّ مَنْ لِكَيْدِ شَـْرعٍ يَفْتَرِى
وَابـنُ زُرَيْعٍ قَـالَ قَـوْلاً يُعْتَبَرْ**** لِكُلِّ دِينٍ جَـاءَ فِرسَانٌ غُـرَرْ
فِرْسَانُ هَذَا الدِّينِ أَصْحَابُ***** السَّنَدْ فَاسْـلُكْ سَبِيلَهُمْ فَإِنَّهُ الرَّشَدْ
وَابْنُ الْمُبَارِكِ الْجَلِيلُ إِذْ سُـئِلْ***** عَمَّا لَهُ الوَضَّـاعُ كَـيْدَاً يَفْتَعِلْ
قَالَ : تَعِيشُ دَهْرَهَا الجَهَابِـذَةْ***** حَامِيـَةً تِـلَكَ الغُـثَـاءَ نَابِذَةْ .
وقد أوصل الإمام الحجة أبو حاتم بن حبان المجروحين من رواة الأحاديث الذين يجب مجانبة رواياتهم ، والتحذير منها إلى عشرين نــوعاً ، وذلك فى كتابه ((المجروحين من المحدِّثين والضُّعفاء والمتروكين )) ، ونحن نلخص مقاصده فى ذلك تلخيصاً وافياً بغرضنا من ذكرهم .
[ النوع الأول ] الزنادقة الذين كانوا يعتقدون الزندقة والكفر ، ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر كانوا يدخلون المدن ويتشبهون بأهل العلم ، ويضعون الحديث على العلماء ، ويروونه عنهم ليوقعوا الشك والريب فى قلوب العوام ، وقد سمعها منهم أقوام ثقات ، وأدوها إلى من بعدهم فوقعت فى أيدى الناس ، وتداولوها بينهم .
[ النوع الثانى ] من استفزه الشيطان حتى كان يضع الحديث على الثقات فى الحث على الخير وذكر الفضائل ، والزجر عن المعاصى والتنفير عنها ، متوهمين أنهم يؤجرون على ذلك ، بترغيبهم الناس إلى الخير ، وتنفيرهم عن الآثام والمعاصى .
[ النوع الثالث ] من كان يضـع الحديث على الثقات اسـتحلالاً وجرأةً على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حتى إن أحدهم يسهر عامة ليله فى وضع الحديث واختلاقه .
[ النوع الرابع ] من كان يضع الحديث عند الحوادث والوقائع تحدث للملوك والسلاطين ، من غير أن يجعلوا ذلك صناعة لهم كالنوع السالف .
[ النوع الخامس ] من غلبه الصَّلاح والعبادة ، وغفل عن الحفظ والتَّمييز ، فإذا حدَّث رفع المرسل ، وأسند الموقوف ، وقلب الأسانيد ، وجعل كلام الوعاظ كالحسن عن أنس عن النَّبىِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حتى خرج عـن حـدِّ الاحتجاج به .
[ النوع السادس ] جماعة من الثقات اختلطوا فى أواخر أعمارهم ، حتى لم يكونوا يعقلون ما يحدِّثون ، فأجـابوا فيما سئلوا ، وحدَّثوا كيف شاءوا ، فاختلط حديثهم الصحيح بحديثهم السقيم ، فلم يتميز ، فاستحقوا الترك .
[ النوع السابع ] من كان لا يبالى ما يحدِّث ، ويتلقن ما يلقن ، فإذا قيل له : هذا من حديثك حدَّث من غير أن يحفظ ، فأمثال هذا لا يحتج بهم ، لأنهم يكذبون من حيث لا يعلمون .
[ النوع الثامن ] من كان يكذب ولا يتعمد الكذب ، ولكنه لا يعلم أنه يكذب ، إذ العلم لم يكن من صناعته ، ولا أغبر فيه قدمُه .
[ النوع التاسع ] من كان يحدث عمن لم يرهم بكتبٍ صحاح ، فالكتب وإن كانت صحيحة إلا أن سماعه عن أولئك الشيوخ غير حاصل ، وربما لم يرهم ، فاستحق الترك .
[ النوع العاشر ] من كان يقلب الأحاديث ، ويسوى الأسانيد ، فيحدث عن المشاهير بالمناكير وما ليس من حديثهم .
[ النوع الحادى عشر ] من رأى شيوخاً سمع منهم ، فلما ماتوا سمعوا عنهم أحاديث فحفظوها فلما احتيج إليهم حدثوا بها عن شيوخهم ، وهم فى الحقيقة لم يسمعوها منهم .
[ النوع الثانى عشر ] من كتب الحديث ورحل فيه إلا أن كتبه ذهبت ، فلما احتيج إليه حدَّث من كتب الناس من غير أن يحفظها كلها ، أو يكون له سماع فيها .
[ النوع الثالث عشر ] من كثر خطؤه وفحش ، حتى استحق الترك ، وإن كان صدوقاً فى نفسه .
[ النوع الرابع عشر ] من ابتلى بابن سوء أو وراق سوء ، كانوا يضعون له الحديث ، وقد أمن ناصيتهم ، فكان يحدث بما وضعوا له ، فاستحق الترك .
[ النوع الخامس عشر ] من وُضع له الحديث فحدَّث به وهو لا يدرى ، فلما تبين له لم يرجع آنفاً من الاعتراف بخطئه .
[ النوع السادس عشر ] من سبق لسانه فحدَّث بالخطأ وهو لا يعلم ، ثم تبين له وعلم فلم يرجع ، وتمادى فى روايته ، ومن كان هكذا كان كذاباً يستحق الترك .
[ النوع السابع عشر ] المعلن بالفسق والسنة ، والفاسق لا يكون عدلاً وإن كان صدوقاً فى روايته .
[ النوع الثامن عشر ] المدلِّس عمن لم يره ، ولم يسمعه .
[ النوع التاسع عشر ] المبتدع الداعى لبدعته ، حتى صار إماماً يقتدى به ، ويرجع إليه .
[ النوع العشرون ] القصَّاص والسؤَّال الذين كانوا يضعون الحديث على ألسنة الثقات ليحمل عنهم .
فهؤلاء المجروحون ممن يجب على كل منتحلٍ للسنن ، باحثٍ عنها ، أن يعرفهم ويحاذر الرواية عنهم ، لئلا يقع فى الكذب على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو لا يدرى .
هذا ، وليحذر الذين يخالفون عن أمر الله ، ويتساهلون ويكثرون ذكر الأحاديث النبوية ، إعتماداً على كتب المواعظ والرقائق ، والزهد وفضائل الأعمال ، المشحونة بالمناكير والأباطيل والموضوعات قبل مطالعتها فى مظانها ، وسؤال الجهابذة النقاد عنها ، للاكتفاء بالصحيح ، ونبذ السقيم . ويعظم هذا التحذير فى حق من يتصدى للفتوى والتعليم والتبيين ، لئلا يقع فى ما نهى عنه من القول على الله بلا علم ( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ) . اهـ
.