بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
د. أحمد ولد حبيب الله:
- أستاذ الأدب الموريتاني في كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة نواكشوط
- الأمين العام لرابطة الأدباء والكتاب الموريتانيين
- المدير الناشر لجريدة السياسة المستقلة
موسوعة اللؤلؤ المشاع... تعيد الحياة إلى (حياة موريتانيا).
** لو أنَّ طبيبا مُورِيتَانِيًا أَعَادَ الحياةَ لِمَيْتٍ موريتاني واحد بعد وفاته بيوم لَشَغَلَ وسائل الإعلام الوطنية والدولية مدة طويلة، فكيف إذا أعاد الحياة للشعب الموريتاني في تاريخه وأنسابه وكنوزه الثقافية والأدبية؟ والطبيب المعالج شريف، نظيف الجنان واللسان واليد وصاحب المشرط المشحوذ والبراعة واليراعة والهمة العالية والعزيمة القوية والنية الصادقة.
والشعب الذي أعاد إليه روحه هو الشعب الموريتاني الذي تمتد ربوعه وحقوله ونخيله وقتاده عبر صحراء بلاد شنقيط القاحلة، الغنية بكنوزها وخيراتها وتراثها الحي الناصع.
إن هذا الإحياء لا يشك فيه مَنْ تصفح موسوعة ((اللؤلؤ المشاع في مآثر أبناء أبي السباع)) فقد وَفَّقَ الله عز وجل السيد الكريم والفاضل العظيم الشريف أحمد سالم بن محمد الأمين بن محمد عبد الله بن محمد المصطفى بن عبد الودود بن الحاج احمد الدُّمَيْسِي السباعي الإدريسي الحسني (ولد عام 1947) ليكون من أولئك الذين هم ورثة الأنبياء من العلماء العاملين الذين يعملون العمل الذي يبقى جاريا لا ينقطع بعد الوفاة، وهو العلم الذي يُنْتَفَعُ بِهِ، والصدقة الجارية، والذرية الصالحة، اللاهجة بالدعاء للآباء دائما.
وقد كان الشريف أحمد سالم وما زال يقوم بما قام به أجداده وآباؤه من خدمة العلم والمعرفة، فكان خير خلف لخير سلف في ميدان العناية الفائقة بالسيرة النبوية العطرة، ومنها الأنساب الموريتانية الشرفية الصحيحة؛ فأنفق بسخاء ووفاء ودون رياء، على اقتناء كل ما يمت بصلة إلى الدوحة المحمدية السامقة من الأنساب الموريتانية عامة والسباعية خاصة حتى تجمعت في مكتبته العامرة مادة غزيرة وصحيحة، فأوْدَعَها موسوعته المذكورة آنفا والتي جمعها حبة، حبة، وكلمة، كلمة حتى ملأت مجلدات ضخمة وفاخرة، ومخطوطة بخطوط مغربية جميلة وأنيقة. وتحوي بين دفاتها الكبيرة كُنُوزًا ثمينة، وجواهر نفيسة، ولآلئ غالية، ونادرة وعجيبة، من الأنساب والوثائق والشعر والنثر والخطوط الموريتانية البديعة لعلماء وفقهاء وشعراء وأدباء كثيرين من الموريتانيين القدماء والمعاصرين، لا توجد عند أحد- حسب علمنا- اليوم.
ذلك أن هذا الأديب الفضيل والأريب الجليل أدرك جيدا كأسلافه الأجلاء والنبهاء أهمية العلم وطلبه وجمعه ووجوب العناية بالأنساب الشريفة وصيانتها من الأدعياء والدخلاء حتى تظل صافية، نقية وحيَّة.
لأن العناية بعلم الأنساب عامة، والنسب النبوي الشريف واجب ديني، مطلوب ومرغوب لأنه جزء من سيرة مَنْ أعطاء الله الشفاعة الكبرى والدرجة الرفيعة والمقام المحمود في اليوم الموعود، وهدى الله المؤمنين العاملين إلى محبته، وجعل إتباعه من محبته وحب ذريته من أسباب الفوز بجنته؛ فكان ذلك كله من أقوى الدواعي التي جعلت أفئدة المسلمين في كل زمان ومكان تهفو إلى كل ما يمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلت كل مسلم حقيقي، قوي الإيمان، يتلمَّسُ كلما يوثق الصلة بالنبي عليه الصلاة والسلام، وينافس ويسابق غيره في صون نسبه، وحفظ سيرته، والاقتداء بأقواله، وأفعاله وأخلاقه.
وكان العلماء وما زالوا، يسعون جاهدين ومجاهدين إلى حفظ النسب النبوي الشريف في مشارق الأرض ومغاربها، لأنه من السيرة العطرة التي هي الرصيد التاريخي الذي تستمد منه الأجيال الإسلامية قوتها، ومناعتها، ومجدها، وفخرها، وزهوها، ونقاء عقيدتها، وصفاء قلوبها، وطهارة أجسادها، ووفرة زادها، ليوم معادها، وأسباب سعادتها، وعظمتها وعطاءها الإنساني الخالد.
***
إن العناية بعلم الأنساب عامة والنسب النبوي الشريف خاصة في غاية الأهمية والخطورة، وهي قديمة قدم الإنسان العربي الجاهلي والإسلامي؛ فقد اعتنى الرواة العرب بتخزين الأنساب في الذاكرة، والمؤلفون بما وعوه وسمعوه ووثقوه، منها توثيقا علميا دقيقا وصارما خاصة ذلك الذي يعني النسب النبوي الشريف الذي أُلفت فيه مئات الكتب القديمة والحديثة.
والإنسان العربي يكاد ينفرد بحفظ نسبه: متصلا في أصله وفرعه. وكان الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلمون الأنساب كما يتعلمون علوم الشريعة، وكان الخلفاء الراشدون الأربعة أعلم الناس بالأنساب العربية، بدون منازع. وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يأمر شعراء الدعوة الإسلامية بالعودة إلى أبي بكر الصديق، في علم الأنسَاب العربية القرشية حتى يَسْتَلُّوا النسب النبوي من النسب القرشي كما تستل الشعرة من العجين.
وقد حرص علماء الأنساب أَشَدَّ الحرص على نقلها من الرواية والدراية إلى التدوين والكتابة اللَّذَيْنِ ازدهرا في العصر الأموي والعباسي دَحْضًا لأكاذيب الشعوبية الحاقدة على العروبة؛ فدونت مثالب العرب وعيوبها خدمة للبرامكة الذين شجعوا هذا النوع الخطير من التأليف الذي يعيث فَسَادًا في أنْسَاب قريش وغيرها من القبائل العربية، الخالدة باختيار رسول الله عليه الصلاة والسلام منها.
وفي بداية القرن الثالث الهجري ضُبِطَ علم الأنساب العربية ضَبْطًا مُحكمًا بفضل جهود هشام بن محمد الكلبي (ت 204هـ) والزهري وعيا منهما بأهمية هذا العلم في حفظ الأنساب التي تعتبر وسيلة ناجعة إلى صلة الأرحام، وتعلمها واجب ديني، كما هو مأثور ومشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم" .
ذلك أن علم الأنساب كان في القديم في غاية الأهمية، وغدا اليوم أشد أهمية، في ظل انشغال أهل هذا الزمان باللهاث الشديد، والجري المحموم وراء المادة، والانغماس في وَحَلِها، عن صلة الأرحام والتواصل الدائم الذي يعود بالنفع في الآخرة، بدخول الجنة التي لا يدخلها قاطع رحم، والفائدة في الدنيا بحصول النعرة والمناصرة وصون النسب من الاختلاط، وصيانة حقوق الميراث، وعدم حدوث الزيجَاتِ غير المتكافئة.
وسيظل الانتساب إلى القبيلة دين العرب وديدنَها صونًا لأنسابها، وحفاظا على نقاء أُرُومتها، وحرصا على بقائها مُتَّصِلة وقوية وناصعة، حتى لا تتناسى أو تضيع بمرور الأيام والأعوام، لأن الأنسَاب قد تُنْسَى أو تسقط، وتغدو كسقط المتاع، إذا لم تحفظ بالتدوين، والتوثيق، والنشر، وجمع الشهادات المصدقة والْمُسَلَّمة من جانب العلماء البارزين، والنسابة المحققين، حتى تظل تلك الشهادات والتسليمات ناطقة بصورة دائمة بالأصل والفصْل والفضل. ومن هنا تبدو أهمية العناية، بعلم الأنساب ووثائقه النثرية والشعرية، لأنه يصون الأصول، العرقية من الذوبان والضياع أو الاندثار، ولأنه - وهذا هو بيت القصيد ومربط الفرس والمغَزَّل عليه - يُعْرَفُ به عمود النسب النبوي الشريف، ونسب ذريته إلى يوم القيامة، لأن علم شجرة النبوة الوارفة الظلال، من أعظم العلوم وأهمها، وأمتعها وأحلاها، كما يقول أحمد البدوي المجلسي (ت 1208هـ):
* وَبَعْدُ فَالْعُلُومُ مِنْ أَعْظَمِهَا ... فَائِدَةً فَكَانَ مِنْ أَهَمِّهَا *
* عِلْمُ عَمُودِ نَسَبِ الْمُخْتَارِ ... ثُمَّ عَمُودُ نَسَبِ الأَخْيَارِ *
* إِذْ مِنْهُمَا تَشَعَّبَ الإِيـمَانُ ... وَالنُّورُ وَالْحِكْمَةُ وَالْفُرْقَانُ *
وقد لا نبالغ إذا قلنا: إن حفظ النسب الشريف في المجتمع الموريتاني الحديث أصبح واجبا أو فرضا عَيْنيًّا بسبب كثرة مُدَّعي الشرف دون بَيِّنة ولا برهان لديه لينال الهدية أو التبجيل والإكرام، حتى إن العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي (ت 1233هـ) سجل ظاهرة ادعاء الشرف في زمانه في كتابه ((الروض في أنساب أهل الحوض)) وقبله بزمن طويل أي في القرن التاسع الهجري يذكر محمد بن محمد علي اللمتوني أن كثيرا من أهل زمانه يدعي الشرف دون بينة، وذلك في رسالته إلى الإمام السيوطي في شوال عام 898هـ 1492م.
ومن الملحوظ استفحال ظاهرة ادعاء الشرف في ظل الفوضى والسيـبة في البلد، احتماء من غطرسة السطو والتلصص وتكسبا أيضا.
*** ***
إن الحاجة شديدة وعاجلة إلى تدوين الأنساب الشريفة ونشرها في موريتانيا، حتى لا تختلط بغيرها، وحتى لا تظل النساء الشريفات يتزوجن بالوضيع والدنيء.
--- يتبع ---