بسم الله الرحمن الرحيم
تطوان مدينة مغربية أندلسية: دراسة في التاريخ والمعمار
مقدمة:
لا يوجد مسافر زار بتطوان ولم يبد إعجابه بها، إذ تنبعث الصور البيضاء من أول نظرة للمدينة القابعة وسط الجبال.
ففي سنة 1717 كتب دبلوماسي إنجليزي يدعى برايت وايت مذكرة عن زيارته للمغرب صحبة السفير الإنجليزي (مستر جان روسل) قال فيها بخصوص مدينة تطوان بأنه وجدها (أفضل بكثير من جميع المدن الخرى التي شاهدوها في رحلتهم، ويؤيد فضلها جمال الراضي التي تحيط بها. وبها تجارة شعب من أقوى الشعوب روحانية، وأكثرها تمدنا في الإمبراطورية المغربية) وقد ترجم كتابه إلى الفرنسية بعنوان histoire des révolutions de l’empire du Maroc وطبع سنة في استردام وقد أثبت ذلك الأستاذ محمد داود في (تاريخ تطوان) وهذه شهادة ديبلوماسية لها قيمتها التاريخية والحضارية[1] ويقول زائر آخر من العصر الحاضر عن تطوان: "وهي مدينة جميلة، والجمال لا يصور حقيقتها بنيت فوق تل درسة إزاء جبال بني حزمار وأحيطت ببساتين يسقيها وادي مارتيل، وإذا كنت مقبلا عليها نهارا بدت لك من بعيد بعماراتها وبيوتها وكأنها مجموعة من الزهر الأبيض، نسقتها الطبيعة تنسيقا يستهوي العين ويسعد الخاطر، ويأخذ بمجامع القلوب، فإذا كان الليل رأيتها هيفاء يغلبها الحياء فتتستر وراء جبل مختفية عن عينيك ويملؤها الزهو فتخرج من مكمنها سافرة تعرض عليك مفاتنها في ثوب شفاف من الضوء يظهر جمالها ويضاعف بهاءها، ويتكرر السفور والحجاب فتنعم بدلالها وتقر عيناك بمرآها وإذا استقام لك الطريق هفت نفسك إليها حين تراها ترحب بك، وأريج حدائقها يدعوك، حتى إذا ما وصلت إلى حرمها ضمك صدرها فتشعر بالراحة ويسري إلى نفسك الاطمئنان، يرى فيها زائرها فتاة جميلة المحيا باسمة الثغر لا يمل المقيم فيها بمرور الأيام لها عشرة، ولا يسأم لطول العهد فيها بقاء"[2] .
أما Roberto Arlt فخاطب تطوان قائلا:
" تطوان يا تطوان ! عندما أذكر اسمك تتمزق روحي، أنت أجمل مدينة في العالم، المدينة التي لا يعرفها أحد، ولا يذكرها أحد مدينة شوارعها سراديب سرمدية خرجت من كل المدن وأنا فرح جذلان ولكن عندما خرجت من تطوان، كان عليّ أن أعض على شفتي حتى لا تنهمر الدموع"[3]
هاهي تطوان جالسة على الضفاف المزهرة لنهر مارتيل ليس بعيدا عن البحر الأبيض المتوسط قبالة الأندلس التي صنعت مجدها، ممتدة فوق سريرها المزهر المليء بالوراق والأشجار لؤلؤة المغرب، الصامتة، المجهولة، الحالمة في قلبها الدروب القاتمة، الضيقة، المتسخة وخارج الأسوار رونق الحدائق ومجد البساتين.
هذه المشاهدات تذكرنا بأندلس الحلم في "واقع مغربي قاتم" كما تبرز التناقضات الثابتة: الحدائق المضيئة والضلال الخفيفة، حرارة السماء ورطوبة الماء، بياض الجدران العارية والتشبيكات الزهرية المعقدة فوق الفسيفساء المتعددة الألوان…
وتحت كل هذه المشاهد الطبيعية والمستحدثة نستشف مسارا مفعما بالتأمل والأمل.
إن النظام المغلق والصارم لتطوان يكبح جماح الأحلام والخيالات. وإن القصور والمعالم الدينية المنطوية على نفسها غالبا ما لا تقع عليها أعين الرحالة والمسافرين.
إن هذا اللعب المتعمد بالأطروحات الأدبية وأضدادها مع مناسبته للمقام الذي نشتغل عليه ليذكرنا بحق بخاصيتين متضادتين سيكشف عنهما البحث التاريخي والآثاري العميق للمدينة وهما: تفتحها الاقتصادي والتجاري وعلاقاتها الخارجية الواسعة وتمردها الدائم وفي الوقت نفسه إنطواؤها ومحافظتها على التقاليد العريقة ونسقها "المغلق".
ولأجل الوصول على قلبها ينبغي تجاوز كل الدوائر التي تحميها: الجبال، الحقول والحدائق والأسوار وهذه القشرات المتتالية تذكرنا بالمدينة الأم (غرناطة) كما تذكرنا بالرمانة التي غناها [4] (La miougrano entre dubarto) Aubanel.
إن تطوان ترتبط بقوة بالعنصر الأندلسي بزهوه وبكوارثه.
لاشك أنه منذ 710م وخلال القرون التالية ظهرت للوجود مدينة صغيرة تسمى تطوان ذكرتها المصادر العربية والأوربية خلال فترات متفرقة من تاريخ طويل، ويذهب البعض – خصوصا الأوربيين- إلى وجود إرهاصات نشاط بحري قديم في تطوان لم يصمد كثيرا أمام تفوق موانئ سبتة والقصر الصغير[5] .
وإذا كانت تامودا الرومانية تقوم فوق السهل فإن تطوان ولدت فوق سفح جبل درسة البعيد نسبيا عن البحر. وبعد تحصين المدينة في القرن 14 ستشهد تطوان تدميرا سنة 1399 – 1400 أو سنة 1437 على اختلاف بين العلماء، كما عجل باندثارها خنقها من طرف المدن المجاورة الأكثر نشاطا.
نحن إزاء قرن غامض (القرن14) تبقى لنا منه ارتسام مفاده التخلي والحطام، إنه على أقل تقدير قرن النسيان.
لقد شكلت مشاكل مملكة غرناطة ثم سقوطها سنة 1492 بداية ميلاد تطوان الأندلسية، إذ كانت نهاية مملكة بني نصر إيذانا بانبعاث تطوان الأندلسية بمسيرتها التاريخية الحافلة وإنجازاتها الحضارية الكبيرة، إنها مدينة في بداياتها الأولى بكل شيء تقريبا للفردوس المفقود أو الموعود إذا أردنا استعارة تعبير المؤرخ الكبير حسين مؤنس.
ولقد أخذت تطوان على عاتقها لعب دور القلب المفعم بذكريات الغرناطيين والموريسكيين من بعدهم.
ألا يمكن اعتبار ميلاد حضارة أندلسية عميقة في أرض مغربية مليئة بالتناقضات هو الذي طبع تاريخ المنطقة بالصراعات والثورات والمقاومات مع ما خلفته تلك الحضارة من عوامل الرقة والحضارة والإعمار؟
وإنه لمن الصعب بمكان تلخيص تاريخ مدينة غنية ومعقدة ولُغْزية كتطوان، إذ على الرغم مما كتبه السكيرج والرهوني وداود وابن عبود وما دبجه الأوربيون –الباحثون منهم الرحالة، وما نظم حولها من ندوات وملتقيات فإننا نجدها تقدم نفسها بسخاء متجدد لمن أراد أن يركب الصعب ويمارس عملية "الحفر الأركيولوجي" من أجل استنطاق جوانب لازالت غامضة من تاريخ هذه المدينة المغربية الأندلسية الفريدة من نوعها.
إن الثروة الأركيوليوجية للمدينة، وجمال موقعها ومحيطها وتاريخها السياسي الحافل، ووفرة نشاطها الاقتصادي، وتميز إسهامها الثقافي والفكري وانفتاحها واحتكاكها على ومع تقاليد وثقافات متعددة، كلها عوامل اجتمعت لتعطي لتطوان طابعها المميز[6].
ونظرا لصغر حجم المدينة العتيقة نستطيع أن نستعيد تاريخ خمسة قرون في يوم واحد.
خمسة قرون من التاريخ ابتدأت من إعادة بناء تطوان في نهاية القرن 15 على يد سيدي المنظري ومجموعة من المهاجرين الغرناطيين وطبعت رموز المدينة بطابعها المتجلي بوضوح في الأشياء والنفوس والأرواح، وذكرياتها لازالت مطمورة في ذاكرة التطوانيين كما أنها لازالت تطبع حياتهم اليوم. والكثير من الأجانب لا يفهمون أهل تطوان لأنهم، بكل بساطة، يجهلون تاريخهم وتاريخ مدينتهم.
وتكمن أهمية التاريخ لا في معرفة الماضي فحسب ولكن لفهم الحاضر واستشراف المستقبل. وتبقى روح تطوان الحالية شاهدة على مجد تليد. وبعد فهدفنا من هذا البحث المتواضع هو النبش في الذاكرة التاريخية والمعمارية لتطوان منذ إعادة بنائها على المنظري وأصحابه إلى بداية القرن العشرين.
وقد آثرنا أن لا نفصل في مقاربتنا هذه بين التاريخ والآثار وذلك لارتباطها العضوي في الميدان مع إيماننا بأن أي فصل بينهما سيؤدي إلى تجميدهما معا.
والمدينة التي ندرسها تعتبر مدينة غير "سلطانية" بخلاف مدن أخرى كفاس ومراكش ومكناس ورباط الفتح مما يكسبها خاصية الانفلات من الترسيم ويمكننا بالتالي استنطاقها للكشف عن الكثير من الطموحات الشعبية والأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والمعمارية التي أنتجت في فضاء ثقافي مفعم بروح الاستقلال.
وينقسم هذا البحث إلى مقدمة وستة فصول وخاتمة.
أما الفصل الأول فمخصص للحديث عن اسم تطوان وموقعها ومميزاتها الطبيعية، والفصل الثاني خصصته للحديث عن تطوان في القديم، والفصل الثالث حول التأسيس الأندلسي لتطوان والفصل الرابع يتحدث عن الفترة الموريسكية والفصل الخامس عن حكم آل الريفي ومرحلة الأوج والفصل السادس مخصص لبداية أفول مدينة تطوان أما الفصل السابع والأخير فيتحدث عن تطوان في بداية القرن العشرين.
الفصل الأول: حول اسم تطوان وموقعها ومميزاتها الطبيعية
1. الاســــم:
واسم تطوان تضاربت حوله آراء المؤرخين فمنهم من ينطقه تطوان ومنهم من ينطقه تطاوين أو تطاون.
ومعلوم أن المغرب بلد أمازيغي قديم، وعلى الرغم من تعريب الكثير من أجزائه فإن معظم مناطقه الجغرافية لازالت تختزن مدلولات أمازيغية. واستنطاق أسماء المناطق المغربية لابد أن يمر عبر المنهج اللغوي الأثري الذي يقتضي الكشف عن هوية الموقع باستعمال المعنى الأمازيغي للألفاظ.
وتوظيف هذا المنهج بخصوص اسم تطوان يؤدي إلى أن أصل الكلمة طاوين كما ينطقها معظم سكان المنطقة، ومعناه العيون، لأن "تيط" بالأمازيغية تعني العين و "وين" صيغة الجمع، وهذا المعنى ينسجم مع وفرة عيون الماء بتطوان لدرجة أن حومة مشهورة لازالت تسمى العيون.
وهذا الرأي قال به الفقيه الرهوني في "عمدة الراوين" إذ يقول "وهذا الإسم على هذا الوجه، (تطاوين) هو الموجود الآن، وحتى الآن، وفي ألسنة أهل البلدة وجيرانها الباقين على أصل الفطرة، المتلقين لذلك عن أسلافهم، حسبما هو معلوم بالاستقراء، ولا ينطق بتطوان، أو يكتبها، إلا من يروم التفصح والتشرف، لولوع الناس بالجديد، ومخالفة الأصل السديد... وأيضا لازال برابرة الريف يعبرون عن العيون بتطاوين حسبما هو مشاهد في ألسنتهم"[7].
وينقل أحمد الرهوني كلاما لأبي علي الحسن اليوسي يقول فيه: "لفظ تطاوين"، وجدنا أهلها وجميع نواحيها ينطقون به بتشديد الطاء، فلا موجب لتحويلها للبربر فوجدناها موافقة لما يقولون وما ذاك إلا لكونهم يتلقونها عن الباء والأجداد وهي في تلك جمع تيط، بمعنى العين الجارية أو الباهرة.
والبربر منهم من يجمعها على هذا الجمع، سواء كانت باصرة أو جارية، فيقولون: "تيطاوين" في لغتهم إلى الآن: فنظرنا في تلك المدينة فوجدناها ذات عيون من الماء، فعلمنا أن ذلك هو المراد بلا إشكال. وأما تطوان فلا معنى له في لغة العرب ولا العجم والله الموفق"[8] وتبنى الأستاذ محمد داود نفس الموقف في كتابه تاريخ تطوان إذ يقول: "واسمها غير عربي لأنه لا معنى له في اللغة العربية، بل هو بربري لأن له معنى واستعمالا في لغة البربر الذين كانوا منذ العصر الجاهلي ومازالو حتى الآن يسكنون عدة جهات في شمال إفريقيا وخصوصا في بلاد المغرب... وأن معناه له علاقة بالعيون، إما العيون الجارية بالماء وإما العيون المبصرة"[9].
2. الموقع:
ومدينة تطوان تقع في الشمال الغربي من بلاد المغرب وشاطئ البحر الأبيض المتوسط يقع شرقيها ويبعد عنها بنحو عشر كيلومترات.
ومدينة سبتة "المغربية الأصل" المشرفة على بوغاز جبل طارق، تقع شمالي تطوان وتبعد عنها بنحو أربعين كيلومترا. ومدينة طنجة الواقعة على المحيط الأطلسي تقع غربي تطوان وتبعد عنها بنحو ستين كيلومترا ومدينة شفشاون تقع جنوبيها وتبعد عنها بنحو ستين كيلومتران. ومدينة مليلية "المغربية الأصل أيضا" تقع في الجهة الشرقية منها وتبعد عنها بنحو 430 كيلومترا ومدينة أصيلا الواقعة على المحيط الأطلسي تقع في الجهة الغربية منها وتبعد عنها بنحو ثمانين كيلومترا. ومدينة العرائش كذلك وتبعد عنها بنحو مائة كيلومترا، ومدينة القصر الكبير تقع جنوبي تطوان وتبعد عنها بنحو مائة وأربعين كيلومترا. وكذلك مدينة وزان، وتبعد عنها تطوان بنحو مائة وأربعين كيلومترا عن طريق الشاون وبين مدينتي تطوان وفاس عن طريق القصر الكبير 300 كيلومترا.
ومدينة تطوان حسب اصطلاح الجغرافيين القدماء واقعة في الإقليم الرابع الذي يصفه ابن خلدون بأنه اعدل العمران، ويصف سكانه بأنهم أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا"[10].
3. المميزات الطبيعية:
يقول الفقيه الرهوني عن الموقع الطبيعي لتطوان:
"اعلم أن موقع هذه المدينة في سفح الجبل المسمى جبل ذي أرسى، أحد جبال قبيلة الحوزية، المنسوبة لحوز البحر الأبيض المتوسط، المسمى في القديم بالبحر الرومي، وقد دارت بسفحه من المغرب إلى الشمال، على شكل ثلاثة أرباع دائرة، ثم نزلت منه إلى البسيط المنحدر إلى الوادي الفاصل بين الجبل المذكور، وبين جبال بني حزمر.. وغالبها مبني على أحجار تحتها كهوف عميقة، ربما تقتضي بمن يسير فيها إلى مسافة بعيدة خارجة عن المدينة.
وبها عيون كثيرة، ذات مياه غزيرة، قد أجريت إلى دورها ورياضها بقواديس فخارية مقسومة على رباعها بالسوية، ما بين نوع جار في سواقي وفساقي، ونوع يسمى كأس عدل...
وفي عدة دور منها آبار ذات مياه كثيرة، غير أن ماء تلك الآبار في الغالب غير عذب بل فيه ملوحة ويسمى في العرف العام بلفظ "شلوق" بضم الشين واللام المخففة والقاف، أي غير حلو أما ماء العيون، ففي غاية العذوبة، لولا أن فيه ثقلا لا يحصل معه هضم الأطعمة على الوجه النافع للأبدان...
وبالجملة، فأهل هذه المدينة، متمتعون بالمياه الجارية والراكدة، تمتعا كبيرا يقاربون به تمتع أهل فاس بوادي جواهرهم وعيونهم"[11] فالمدينة القديمة زاخرة بالعيون المائية التي تجري في قنوات فخارية وضعت لهذه الغاية لتصل إلى المساجد والبيوت القديمة، وهذه المياه ثقيلة في الجملة وإن كانت عذبة صافية، وكانت تسمى بماء (السكوندو) ولعل هذا الاسم أطلق لعيها بعد "الحماية" الإسبانية لأن كلمة "سكوندو" بالإسبانية يراد بها الثاني فعرف هذا الماء بالماء الثاني بعد عثور الإسبانيين على عيون أخرى في ضاحية (سيدي طلحة) نسبة إلى الشيخ الصالح أبي يعلى سيدي طلحة الدريج"[12].
وللأستاذة اللوه رأي آخر في ماء سكوندو إذ تقول:
"ومن المعالم الباقية إلى اليوم، سبكة توزيع الماء بالمدينة والمسمى ماء سكوندو، وهذه الكلمة تحريف لكلمة Segundo الإسبانية، وهو اسم عائلة أندلسية موريسكية مزحت إلى تطوان...
وأحسن ما في هذا الماء هو نظام توزيعه.. ومنبعه يوجد في جبل درسة، وقد نقل إلى المدينة عبر قناة ضخمة تم إيصالها إلى المنطقة التي توجد فيها زنقة القائد أحمد، ومن هناك تم توزيع الماء توزيعا مدهشا على المدينة، وقد تمت مقارنة نظام توزيع ماء سكوندو مع نظام توزيع الماء ببلنسية فظهر أنه نظام واحد وبهندسة واحدة... وفي كل دار بتطوان كان يوجد نبع متدفق بماء سكوندو.
حاليا أبطل استعمال هذا الماء لأسباب.. والذي يهمنا هنا هو ذلك النظام المدهش لعملية توزيع الماء الذي أخذ اسمه من مخططه ومهندسه سكوندو Segundo"[13].
وبخصوص جو تطوان وهوائها يقول الفقيه الرهوني في "عمدة الراوين" أن هواء هذه المدينة بالطبع جيدا موافقا للصحة وهو كذلك لولا العارض.
والعارض الذي يؤثر في جودة هوائها، جريان المياه الغزيرة، سواء كانت مطلقة أو مضافا تحت أبنيتها، مع ما أضيف إلى ذلك من وجود البحر في جهتها الشرقية، وجبال بني حزمار الشاهقة في جهتها الجنوبية، وجبل أرسى الشامخ في جهتها الغربية، فتصعد من تلك المياه أبخرة كثيرة تؤثر في سكانها، بل وفي نباتها، رطوبة كبيرة تكاد تقضي على حياة الجميع. وتقوى تلك الرطوبة الرياح الشرقية، إذ تأتيها حاملة تيارات بحرية، فتصير المدينة بين رطوبة أرضية، وأخرى سماوية، تكون منها سبح ربما أمطرت مطرا كثيرا، وربما أمطرت مطرا يسيرا يسمى لغة وعرفا بالندى وناهيك بهذه الرطوبة تأثيرا في الصحة.
ووجود الجبال في ناحيتي الجنوب والغروب، يصد هبوب الريح التي تذهب بتلك الرطوبات، يرد أشعة الشمس على الأرض، فيعين على قوة رطوبة تلك الأبخرة المتصاعدة، وأحسن الرياح الموافقة لصحة سكن البلد، الريح الشمالية، لأنها، وإن كانت تهب من ناحية بحر سبتة، فإنها لمرورها على الجبال والأراضي الصحيحة الحجرية، تكتسب صحة وجودة تفيض على السكان من بركتها، فتنشف الرطوبة الحاصلة في المدينة، وتؤثر في الصحة تأثيرا جيدا"[14].
الفصل الثاني: تطوان في القديم
عنون الأستاذ الكبير محمد داود فصلا من كتابه "تاريخ تطوان" (بتطوان القديمة) قال فيه:
"نعني بتطوان القديمة، تلك المدينة التي كانت موجودة قبل البناء الأندلسي الأخير، أي غير تطوان الموجودة الآن، لأن مدينة تطوان الحالية بتقسيماتها وشوارعها ودروبها ومعاهدها، ليس قديمة، لأنها إنما بنيت في أواخر القرن التاسع للهجرة، الموافقة لأواخر القرن الخامس عشر للميلاد، أي قبل تاريخنا هذا بما يقرب من خمسمائة عام، وذلك أنه لما نزلت الكارثة العظمى بالأندلس كارثة اضمحلال آخر دولة إسلامية بذلك الفردوس المفقود، هاجر كثير من المسلمين إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وكانت من بينهم جماعة من سكان غرناطة ونواحيها، فالتحقت هذه الجماعة بجماعة أندلسية أخرى كانت قد سبقتها إلى هذه الناحية من بلاد المغرب، وجدد الجميع بناء مدينة تطوان التي كانت في ذلك العهد مخربة غير عامرة ولا مسكونة، وهذا البناء الأندلسي هو الذي عمرت به هذه المدينة عمارتها المدينة عمارتها الجديدة، ولم يطرأ عليها خراب بعد ذلك إلى الآن والحمد لله... والواقع أن التاريخ الصحيح المحقق لتطوان، أنما يبتدئ نم تاريخ هذا البناء الأندلسي، أما ما قبل ذلك فالمعلومات عنه إنما هي شذرات متقطعة"[15].
تشير الأبحاث التاريخية والأركيولوجية التي قام بها الباحثون الأجانب من أمثال بياري وتيسو – في تطوان وناحيتها إلى وجود آثار عمارة ما قبل إسلامية متمثلة خصوصا في آثار "تمودة" التي عثروا فيها على شوارع وآثار ومقابر وأواني ونقود وغير ذلك.
والتواريخ الرومانية تحكي أن مدينة تمودة كانت عاصمة مطرانية، مما يدل أنها كانت مدينة كبيرة ذات أهمية والعالم الإسباني الأثاري "بيلايو كينطيرو" المدير السابق لمتحف تطوان قد استنتج من أبحاثه أن هذه المدينة المكتشفة رومانية، وأنه كان بها معسكر روماني، ويستدل على ذلك بالآثار والنقود التي عثر عليها، ويرى أن هذه المدينة قد أحرقت، لأنهم عثروا على ديار محترقة ومتهدمة، وأن أهلها تركوها وانتقلوا إلى المكان الذي توجد به تطوان الآن.[16]
ونعثر عند الجغرافي اليوناني بطولومي على ذكر لمدينة بين المكانين المعروفين الآن براس الطرف ورأس وادلو، وهما رأسان معروفان أحدهما في الشمال الشرقي لتطوان، والآخر في جنوبها الشرقي، وربما تكون تلك المدينة هي تطوان.
ويأتي ليون الافريقي ليقول عن تطوان في كتابه وصف إفريقيا ما ترجمته:
" تطاوين (Tetteguin) مدينة صغيرة بناها الافريقيون القدامى على بعد 18 ميل من المضيق وعلى بعد 6 أميال تقريبا من البحر، واستولى عليها "المحمديون" في الوقت الذي افتكوا فيه سبتة من أيدي القوط"[17].
أما خلال العصر الإسلامي فنجد اسم تطوان مذكورا في كتاب "روض القرطاس" لابن أبي زرع حيث تحدث عن دولة الأمير محمد بن إدريس بن إدريس فقال:
"لما ولي قسم المغرب بين إخوته، وذلك برأي جدته كنزة أم أبيه، ولى أخاه القاسم مدينة طنجة وسبتة وقلعة حجر النسر ومدينة تطوان وبلاد مصمودة وما إلى ذلك من القبائل"[18].
وابن أبي زرع هو أقدم مؤرخ ذكر ولاية القاسم بن إدريس لمدينة تطوان، وهو من أهل القرن الثامن، وبينه وبين القرن الثالث نحو خمسة قرون.
وذكر بعضهم أنه عام 334هـ، أراد أحد الأدارسة تجديد بناء تطوان الخربة فأرسل الناصر الأموي لعامليه على سبتة وتيكساس أن يمنعاه من ذلك[19].
ونقل الرهوني عن أبي عبيد البكري صاحب المسالك والممالك قوله "ولما دخلت سنة 338هـ أجمع بنو محمد بن القاسم بن إدريس على هدم مدينة تطاوين، وهدموها ثم أرادوا بنيانها فضج أهل مدينة سبتة من ذلك، وزعموا أنها تضر بسبتة وتقطع مرافقها، فأعجل عبد الرحمن الناصر إخراج الجيش إليهم سنة 341هـ، فتخلى بنو إدريس عن تطاوين وارتحلوا إلى قرطبة مقر الخلافة"[20].
وذكر الناصري في الاستقصا أنه خلال زحف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي صاحب إفريقية بعد العبيديين إلى المغرب الأقصى... صعد جبال تطوان وتسنم هضابها..
وقد كانت تطوان موجودة أيام تأليف البكري كتاب المسالك والممالك وهو عام 460هـ وسماها تطاون التي بسفح جبل إيشقار، أي جبل درسة وتقع أسفل واد راس وهي قاعدة بني سكين. ولعل الزمان أرخى عليها بعد ذلك ذيول الخمول ولذلك كانت زمن قدوم سيدي عبد القادر التبين إليها قرى صغار[21] وورد ذكر تطوان ووصفها في جغرافية الشريف الإدريسي المتوفى سنة 560هـ فقد جاء في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق": "ومن مدينة سبتة السابق ذكرها بين جنوب وشرق
إلى حصن تطاون مسافة صغيرة وهو حصن في بسيط الأرض.. وتسكنه قبيلة من البربر تسمى مجكسة".
والادريسي من أهل سبتة القريبة من تطوان، وقد جاب الآفاق ووصفها، يقول عن تطوان بأنها حصن تسكنه قبيلة من البربر[22].
وذكر صاحب كتاب "الاستبصار" وهو مؤلف مجهول من القرن السادس مدينة تيطاوين وقال عنها أنها مدينة قديمة كثيرة العيون والفواكه وطيبة الهواء والماء.
وينقل الأستاذ داود عن صاحب الاستقصا ذكره لغزو الموحدين لتطوان في عهد عبد المؤمن بن علي كما ينقل عن البيدق نزول الموحدين إلى تيطاوين وقتلهم 800 شخص بها [23] تم تذكر المصادر أن أمير المؤمنين أبو يعقوب يوسف بن عبد الحق المريني بني قصبة تطوان سنة 685هـ. ثم شرع في بنائها حفيده أبو ثابت عامر بن عبد الله بن يوسف المريني سنة وفاته وهي 708 لكونه أراد أن يخطها لعسكره للأخذ بمخنق سبتة كما في القرطاس وابن خلدون والاستقصا... تم خربها الاصبنيول سنة 803هـ وذلك في مدة الأمير عثمان بن أحمد المريني أو سنة 807هـ على ما ذكره صاحب الاستقصا، وبقيت خربة نحو 90 سنة إلى أن جدد بناؤها على يد الرئيس أبي الحسن، على المنظري الغرناطي[24] وببناء المنظري لتطوان الجديدة بعث مدينة أندلسية من الخرائب ووسعها وجعها المكان الحلم لمنفى الآلاف من الإسبان المسلمين أو لا، والمريسكوس بعد ذلك"[25]
الفصل الثالث: التأسيس الأندلسي لتطوان
لا يمكن الحديث عن تجديد تطوان من طرف المنظري وأصحابه بقدر ما يمكن الحديث عن إعادة بناء.
بعد سقوط سبتة في يد البرتغاليين سنة 1415هـ وسقوط القصر الصغير سنة 1458هـ وطنجة وأصيلا سنة 1471هـ، في يد الإسبان بدا حوض نهر مارتيل[26] معزولا، وشكلت شفشاون المدينة –الدولة عصب المقاومة المغربية للغزو الإيبري... في حين كانت ضيعة تطوان تحتل موقعا دفاعيا محميا بحواجز طبيعية ممثلة في جبلي درسة وغرغيز كما ترتمي في أحضان البحر الأبيض المتوسط عبر سهول بني مطهر ومرتيل ويحفها من جهة الجنوب الغربي مرتفعات جبالة[27].
ومؤسس المدينة، أبو الحسن علي المنظري هو "أحد قادة جيوش أبي عبد الله الملقب بالملك الصغير (El rey chico)، كان قائدا لحصن بينار Pinar القريب من غرناطة، وهناك أخبار متضاربة حول خروجه من الحصن. والبحاثة Don Guillermo Goza Lbies Bueto في كتابه (المنظري الغرناطي مؤسس مدينة تطوان) يقول:
"إن القائد المنظري غادر قيادته وأرضه نهائيا، شهورا قبل سقوط حصن "بينار Pinar" ويضيف: "المنظري كان ينتمي لطائفة أبي عبد الله الصغير، ومن هناك يفهم أنه ترك الحصن عندما شعر بالعزلة، وبأنه محاط من لدن قوات الزغل..."
فالشعور بالهزيمة الذي زاد فيه أسر ملكه أبي عبد الله من قبل النصارى، حمل المنظري وجماعته من المحاربين الغرناطيين على الهجرة إلى الديار الإسلامية الإفريقية، وكونوا في المنفى جماعة لن تنفصل، ومع الزمان ارتفع عددهم بوصول مهاجرين آخرين"[28] وتذكر الروايات –البرتغالية خصوصا- مواجهات المنظري الحربية مع الإسبان والبرتغال وأن كرهه للملوك الكاتوليك كان كبيرا، زاد من حدته إحتلال مدينته الأصلية (المنزر) أي المنظر الجميل وهو ما يسمى اليوم بيدمار Bedmar. لقد شكلت هذه الهجرة الغرناطية إلى تطوان نقطة بداية جديدة وعامل استمرار وازدهار حضاري. وأصبحت غرناطة حاضرة باستمرار في الذاكرة التطوانية حضورا تاريخيا وحضورا أسطوريا أيضا.
وتضفي بعض المصادر البرتغالية طابعا أسطوريا على حياة المنظري من ذلك قصة زوجته الأولى فاطمة – من عائلة الملك أبي عبد الله الصغير- التي وقعت أسيرة في يد الكونت دي تنديلا، تقول أمينة اللوه بهذا الصدد:
"فعندما كانت متوجهة من مدينتها غرناطة إلى تطوان للزواج من المنظري، أسرتها جيوشEl Conde de tendilla ويأمر من هذا، ذهبوا بها إلى قلعة Alcala la Real وتبعد عن غرناطة بخمسين كلم.. إلا أن الاتصالات تمت في شأنها مع الكوندي، ومنها رسالة من الملك لأبي عبد الله الصغير إلى الكوندي يطلب فيها إطلاق سراح قريبته فاطمة، ويقدم مبالغ من ثروته لافتدائها.. وأمام هذا الاهتمام الصادر من الملك أبي عبد الله وبعض الشخصيات الغرناطية حرر الكوندي فاطمة بدون أن يتقبل أي افتداء، بل إنه من أجل إظهار العناية بالأسيرة، أهدي العروس حليا ثمينة وهدايا أخرى"[29] ونعثر كذلك على نص برتغالي عجيب يصعب تصديقه ويبدو بعيدا عن المنطق، يقول النص أن "أبو الحسن المنظري طلب من ملك البرتغال نقله رفقة المهاجرين الغرناطيين إلى تونس مقابل التخلي عن تطوان وناحيتها لصالح ملك البرتغال"[30] لقد اختلطت في شخصية المنظري الأبعاد التاريخية والأسطورية، مما يضفي عليه بعدا لغزيا... وقبره وقبور المجاهدين الغرناطيين لا تزال قائمة في المقبرة الإسلامية بالمدينة.
وباستثناء قبره الذي نصبت فوقه قبة حفيلة فإن قبور مرافقيه الغرناطيين يطالها الإهمال والنسيان.
وهناك اختلافات في تاريخ بناء مدينة تطوان، فعبد السلام السكيرج في مخطوطه "نزهة الإخوان" يذكر أنها بنيت سنة 888هـ، وفي "المخطوط التطواني" يذكر صاحبه سنة 889هـ (نقلا عن محمد داود ص 95) وليون الإفريقي يذكر أن البناء تم بعد سقوط غرناطة وإلى هذا الرأي يميل محمد داود اعتمادا على تقييد للعربي الفاسي صاحب كتاب (مرآة المحاسن) إذ ذكر مانصه: "إن هذا البناء الأخير كان على يد جماعة من الأندلسيين قدموا إلى هذه العدوة حين استولى الكفرة – دمرهم الله- على الجزيرة أعادها الله للإسلام، وذلك في شعبان لسبع خلت من عام 89هـ) (أورده داود، ص95 – 69).
ويرىG.G.Bustoأن البناء تم سنة 1484م اعتمادا على عدة حجج أوردها في كتابه (المنظري الغرناطي مؤسس مدينة تطوان)، وعلى كل فمن المرجح أن تكون المدينة قد بنيت على مراحل مما خلق معه هذا الاضطراب في التواريخ.[31]
ولئن سبقت الهجرة تأسيس تطوان مرتبط بقوة، بسقوط غرناطة في يد إيزابيلا وفردناند. لقد شجع الاستقبال الحميمي الذي خصص للمهاجرين الأوائل سواء من طرف محمد الشيخ الوطاسي، الذي أذن للمنظري بتجديد تطوان، أو من طرف مولاي علي بن راشد بشفشاون- على جلب أفواج أخرى من المهاجرين الذين اندمجوا في المجتمع التطواني الجديد، الذي عرف ازدهارا كبيرا يرجع الفضل الكبير فيه إلى طبيعة العنصر البشري الأندلسي.
ولم تكن الهجرة الغرناطية على تطوان حدثا منقطع النظير، إذ تثبت المصادر التاريخية هجرات أندلسية، غرناطية وغيرها، إلى بلدان إسلامية وأوروبية خصوصا دول المغرب العربي[32] وبعكس الهجرة الأندلسية إلى الإيالات التركية (تونس خصوصا) التي كانت بإيعاز وتشجيع من السلطات التركية، فإن المهاجرين الأندلسيين إلى المغرب تحملوا كل تبعات استقرارهم في العدوة المغربية، نظرا للفراغ السياسي الذي عاشه المغرب بعد سقوط الحكم الوطاسي. [33]
ويبدو التأثير الغرناطي واضحا في تطوان سواء في العمارة العسكرية أو الدينية أو المدنية، إلا أن طابع القلعة كان يطغى على الخصائص الأخرى.. ويبدو سور القصبة المنظرية شاهدا على غلبة الطابع العسكري لمدينة تطوان خلال نهاية القرن 15 نظرا لسمكه وعلوه وأبراجه الصغيرة، مما يجعلنا نستنتج أن الطابع المعماري الأصلي لتطوان صيغ بطريقة تحمي المهاجرين الغرناطيين الأوائل ضد الغزو الخارجي والداخلي على السواء.
لكن الغوص داخل المدينة المنظرية يجعلنا نكتشف أن حرص الغرناطيين المؤسسين، المسكونين بهاجس الدفاع عن مدينتهم لم يحل دول وضع اللبنات الحضارية الأساسية لازدهار كبير سيبلغ حده الأقصى خلال القرن 18.
وبعد عمر ناهز 85 سنة مات أبو الحسن المنظري عام 1511، وضريحه يوجد بمقبرة المدينة القديمة بتطوان على تل مشرف على سهول تطوان الممتدة إلى مرتيل، ودفن بجواره المجاهد الوطني عبد الخالق الطريس.
خلف المنظري الحفيد جده المتوفى وتزوج بالسيدة الحرة – ابنة قائد الشاون مولاي علي بن راشد – التي ستحكم المدينة بدورها بين 1537 و 1542.
والست الحرة سيدة حظيت بشهرة واسعة النطاق في الشمال الغربي من إفريقيا الشمالية، وهي ممن اعتنى المؤرخون الأجانب بالحديث عنها والتعرض بالذكر لأيام حكمها بتطوان، ولعل شهرة هذه السيدة قامت على عدة اعتبارات: فهي ابنة أمير شفشاون علي بن راشد، وهي في الوقت نفسها الأخت الشقيقة للوزير أبي سالم إبراهيم بن راشد، أمها (لالا الزهراء) ذات الأصل الإسباني الأندلسي وهي كذلك زوجة قائد تطوان محمد المنظري، وهي حاكمة تطوان في فترة معروفة من تاريخ المغرب.
وهي بعد كل هذا وذاك، زوجة السلطان أحمد الوطاسي (932-956) ابن السلطان محمد الشيخ (البرتغالي) (919-932) الذي اعتبر زواجه منها في ذلك الوقت شبيها بزواج الملكين الكاثوليكيين فرديناند (1452-1516) وإيزابيلا (1451-1504) مكلي إسبانيا في أواخر القرن 15 وأوائل 16"[34].
ويمكن القول أن عصر آل المنظري محكوم بتأثير واضح للحضارة الأندلسية وبعلاقات عدائية مع الآخر الأوروبي وبحنين شديد إلى الوطن الأم، كما نستشف ضعف الولاء للسلطة المركزية، وهي خاصية ستميز تاريخ تطوان طوال خمسة قرون.
بعد آل المنظري، سيحكم تطوان آل النقسيس، ومن بعدهم آل الريفي تم آل أشعاش كل هذه الأسر حكمت لأكثر من جيلين وطبعت تطوان بميسمها الخاص، وتشهد العديد من الآثار المعمارية الباقية على اليوم على إنجازات هذه الأسر، واستمرت الهجرات الأندلسية في اتجاه العدوة المغربية تترى، مستقدمة خبرات جديدة وأنماطا في العيش جديدة، واندمجت الجاليات الحديثة مع سابقاتها، مشكلة مجتمعا متعدد الأبعاد، يربط بين عناصره وحدة الأصل مع وجود تمايز اجتماعي واقتصادي وفكري سينعكس على نمط العيش وعلى المجال والمعمار.
والمتتبع لأخبار الأندلسيين بالمغرب يلمس اختلافا دقيقا بين أندلسيي تطوان وشفشاون من جهة وأندلسيي المدن المغربية الأخرى، ويكمن هذا الفرق في كون الأوائل حافظوا على علاقاتهم مع الوطن الأم، وكالوا ضربات قاسية للإسبانيين والبرتغاليين، ومارسوا "القرصنة" بضراوة، بينما أندلسيو الداخل احتفظوا بالأندلس ! فقط في ذاكرتهم.
ونظرا لقلة المصادر المكتوبة، واختلاط الكثير من المصادر الشفوية بالروايات الأسطورية، وصعوبة الوصول إلى المخطوطات الخاصة، ونظرا لضعف معرفتنا بالنشاط الاقتصادي والبحري لتطوان، وكذا ندرة الأبحاث الأركيولوجية، كلها عوامل تظافرت لتجعل من القرن 16 بداية القرن 17 فترة تاريخية غامضة. ومع ذلك يمكن تسجيل ازدهار "القرصنة: ما بين 1550 و1570، والهجومات الإسبانية سنة 1565، وصراعات تطوان مع القبائل سنوات 1570 – 1580 كمحطات تاريخية مفتاحية في هذه الفترة الغامضة.[35]
آثار المدينة المنظرية
1. الأبواب والقصبة
يمكن تحديد موقع المدينة الأصلية في الحي المعروف الآن بحومة البلاد، ولأسم "البلاد" دلالة قوية على التجمع السكاني الأول.
تقول الباحثة آمنة اللوه: "من بين الآثار المعمارية الباقية على اليوم نجد ما أسسه المنظري هو (حومة البلاد) ولعل عبارة "ولد البلاد" الشهيرة بين التطوانيين مصدرها "حومة البلاد" هذه... في "حي البلاد" بنى الغرناطيون في السنوات الأولى، منازلهم، وفيه توجد الدار التي بناها المنظري لنفسه وكانت تسمى "دار السكة"، وتقع في درب جامع القصبة، وما تزال قائمة في مكانها، وهي مفتوحة تكرما من مالكها لكل من يرغب في زيارتها للدراسة والاستفادة".[36]
ويمكن اليوم أن نشاهد بقايا المدينة المنظرية في السور الخارجي للقصبة القديمة، وثلاثة أبراج على طول ما يسمى اليوم: سوق الحوت، الغرسة الكبيرة وزنقة القزدارية. كما نجد بقايا أخرى في الجزء الشمالي للمدينة بجوار باب المقابر الحالية تتجلى في بقايا سور المدينة الأصلية، ويشكل هذا السور اليوم جزءا من دار الدباغ.
بالإضافة إلى القصة، هناك "حمام المنظري وفران المنظري وباب الشريعة، سمي بذلك لأنه كان يفضي إلى محكمة الشريعة التي كانت قائمة إلى حدود سنة 1935" [37].
ويمكننا البحث في دلالات الألفاظ (الطوبونيميا) من التعرف على بقايا احتمالية للسور الأصلي. يدل اسم زنقة "أحفير" مثلا على موقع الخندق خارج السور الأصلي في اتجاه فاس، أما اسم الغرسة الطبيرة فيشير إلى احتمال كونه حديقة خارج الأسوار.[38]
لم يبقى أي أثر للأبواب الثلاثة الأصلية التي تحدث عنها مؤلف فاسي من القرن 17 وقال عن المدينة المنظرية أنها محصنة ومحاطة بسور مزدوج، محاط بدوره بخندق وبه ثلاثة أبواب. فباب مقابر تغيرت ملامحها الأصلية بصفة كاملة كما يحتمل أن يكون موقع الباب الثاني عند إلتواء قريب من سلوقية سيدي الصعيدي، بينما لا نملك أي مؤشر على موقع الباب الثالث.[39]
وتوجد باب مصانة تربط القصبة بالمدينة – بأتم معنى الكلمة- وتحمل اسم باب المشور نظرا لقربها من مشور القرن 16الذي يختلف عن المشور اللاحق الذي يقع في موقعه المعروف اليوم.
وتتميز باب المشور بقباب تقوم فوق أقواس بيها مثلثات كروية (pendentifs)، والواجهة الخارجية مزخرفة، وعقود القباب مبنية بالآجر.
نعود إلى قصبة المنظري ونقول أن شكل البرجين الخارجيين مستطيل، بينما يبدو البرج الأوسط متعدد الزوايا. والأبراج كلها مبنية من الدبش والآجر بالتناوب، وتعلوها فتحات وشرافات، وينفرد البرج الأوسط بأقواس "عمياء" من الآجر على شكل هلال.[40]
وداخل القصبة بنى المنظري جامع القصبة، الذي لازال يعرف بهذا الاسم إلى اليوم وقد أعيد بناؤه في القرنين 17 و18.
وعلى الرغم من اندثار معظم معالم دار الإمارة "دار السكنى" فإن موقعها بمحاذاة الجامع من جهة الجنوب، يذكرنا بتقليد معماري إسلامي عام في تاريخ العمارة الإسلامية، يرجع أصله إلى العصر الأموي بدمشق. والعنصر الوحيد الذي حافظ على شكله الأصلي في "القصر المنظري" هو الحمام الصغير الذي يقع في الجهة الغربية ويتوفر على قبتين تعلوان أقواس مروحية الشكل [41] ويمكننا من خلال دراسة الأبعاد المعمارية لحومة البلاد الحالية، ودلالات ألفاظ دروبها وأزقتها ومعالمها، أن نقترب من فهم التصميم الأصلي لتطوان القرن 16.
وإذا كان الباحث الشهير جورج مارسيه في كتابه الضخم حول "عمارة الغرب الإسلامي"، يصرح بغياب بقايا آثار تعود للفترة الممتدة بين 1335 و 1557، أي المراحل الأخيرة للدولة المرينية وفترة الحكم الوطاسي، فإن بقايا المدينة المنظرية بتطوان تمكن من ملأ هذا الفراغ الآثاري[42] وقد كانت مدينة تطوان خلال القرن 16 تتوفر على ملاح يأوي يهود المدينة القادمين جلهم من الأندلس، وتجمع المصادر أن عددهم كان مهما.
وكان الملاح يقع في الزاوية الشمالية الغربية للمدينة، ويدل اسم الملاح البالي – قرب الجامع الكبير- على المكان المحتمل للملاح القديم، هذا مع العلم أن الملاح الحالي يعود تاريخ بنائه إلى فترة حكم المولى سليمان (1792-1822) ويؤيد ما ذهبنا إلى ما ذكره الناصري في الاستقصا حين كان بصدد تعداد المنجزات المعمارية للمولى سليمان إذ يقول:
"وبنى مسجد وزان ومسجد تطوان وأخرج أهل الذمة من جواره وبنى لهم حارة بطريق المدينة"[43].
أما من حيث العمارة الدينية، فتتميز مساجد هذه الفترة ببساطتها وصغر صوامعها المبنية بالآجر والمطلية بالجير البيض، وينفرد مسجد ارزيني الذي يقع بدرب ارزيني، في زنقة الصفار –قرب باب العقلة- بحفاظه على طابعه المعماري الأصلي ويعود تاريخ بنائه إلى سنة 1590[44]، أما الحمام العمومي الذي ينسب إلى عصر أبي الحسن المنظري، فلا زال يستعمل على اليوم وهو ذو طابع أندلسي، ويتكون من أربعة أجزاء: قاعة الاستراحة، والقاعة الباردة، والقاعة الدافئة والقاعة الساخنة، وهو نمط روماني قديم تشهد عليه بوضوح، الحمامات المكتشفة على طول الامبراطورية الرومانية القديمة.
ويمكن اعتبار مواقع دار الدباغة وسوق الخرازين كمؤشرات على الخريطة الحرفية لتطوان في هذا العصر، وخصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدباغة وصناعة الجلد شكلتا عصب الحياة الصناعية بتطوان القرن 16 [45]. ويدل موقعها في الزاوية الشمالية الغربية للمدينة على تقليد معماري إسلامي يتجلى في إقامة الصناعات غير الأنيقة بعيدا عن المسجد الجامع وقرب الأسوار [46].
وتكشف أسماء الدروب والأزقة الحالية عن مهن أخرى كانت مزدهرة في ذلك العصر، كالصياغين والنجارين والعطارين، أو تكشف عن نشاط اجتماعي، كزنقة المرسطان (المارستان) وغيرها...[47]
الزنازن : Les cachots
يتبع